في عصر التطورات المُتسارعة التي تشهدها تقنيات الذكاء الاصطناعي، يتردد صدى دعوات متنامية عبر منصات المدونات الصوتية (البودكاست) وضجيج منصات التواصل الإجتماعي، تطالب بإعادة هيكلة جذرية، بل وربما تجاوز، المؤسسات التعليمية التقليدية. يرتكز هؤلاء في طرحهم على الإمكانات الهائلة التي يتيحها الذكاء الاصطناعي وسهولة الوصول إلى منابع المعرفة الرقمية، معتبرين أنها تُغني عن الحاجة الماسّة إلى وجود المعلم والبيئة الصَفِّية المألوفة. لكن، هذه النظرة التي تكتسب زخماً في بعض الفضاءات الرقمية تستوجب وقفة تذكير وتنبيه بخطورة إغفال الأُسس النظرية والجوهر الإنساني الذي تقوم عليه العملية التعليمية.
لا شك أن التكنولوجيا، وعلى رأسها الذكاء الاصطناعي، تمثل رافداً قوياً يمكن أن يُثري المشهد التعليمي ويفتح آفاقاً واسعة للوصول إلى المعرفة وتقديم أدوات تعلم مبتكرة. فمنصات التعلم الرقمي، والتطبيقات الذكية، والخوارزميات القادرة على تكييف المحتوى، كلها تشكل أدوات واعدة لتحسين جودة التعليم وتخصيصه.
إلا أن اختزال التعليم في مجرد عملية نقل للمعلومات، يمثل تبسيطاً مُخلاً لطبيعته المعقدة والمتعددة الأبعاد. فالتعليم، في جوهره، تفاعل إنساني حيوي يتجاوز حدود الاستيعاب المعرفي السطحي. وهنا تتجلى الأهمية القصوى للتفاعل المباشر بين المعلم والمتعلم، الذي يُعد ركيزة أساسية في مختلف النظريات التربوية الرصينة.
فمن منظور نظرية التعلم الاجتماعي التي وضع أسسها العالم الجليل ألبرت باندورا، يضطلع المعلم بدور القدوة والملهم، الذي يحتذي به الطلاب في سلوكهم وتفكيرهم. فمن خلال الملاحظة والتفاعل الحميم، لا يكتسب المتعلمون حقائق مجردة فحسب، بل أيضاً منظومة من القيم والمهارات الاجتماعية وطرائق التحليل النقدي. فهل يمكن لآلة صماء أن تضطلع بهذا الدور الإنساني العميق بكل أبعاده؟
وعلى صعيد آخر، تؤكد النظرية البنائية على أن اكتساب المعرفة هو عملية نشطة يبني فيها المتعلم فهمه للعالم بنفسه، من خلال التفاعل الديناميكي مع البيئة التعليمية والمحتوى المعرفي، وذلك بتوجيه ورعاية من المعلم. فالمناقشات الصفية الثرية، والأنشطة التعاونية المحفزة، وحتى الأخطاء التي تُرتكب وتُناقش في بيئة تعليمية آمنة وداعمة، كلها عناصر لا غنى عنها في تشكيل فهم عميق ومتين للمفاهيم. فهل يمكن لشاشة جامدة أو برنامج حاسوبي أن يوفر هذا النوع من التفاعل الإنساني الحيوي بكل تعقيداته؟
لا يمكننا أيضاً أن نغفل الدور المحوري للمعلم في تنمية المهارات الشخصية والاجتماعية التي لا تقل أهمية عن التحصيل الأكاديمي. فالتواصل الفعال، والعمل بروح الفريق، وإيجاد الحلول المبتكرة للتحديات، والقدرة على التعبير عن الذات بوضوح واحترام وجهات النظر المختلفة، كلها مهارات تُكتسب وتُصقل في بوتقة التفاعل الإنساني الغني داخل البيئة التعليمية الحقيقية. هذه المهارات هي الزاد الحقيقي لإعداد أفراد قادرين على المساهمة بفاعلية في نسيج المجتمع.
إن الدعوات المُتسّرعة إلى الاستغناء عن المؤسسات التعليمية التقليدية استناداً إلى بريق التكنولوجيا تبدو وكأنها قراءة سطحية لطبيعة التعلم الإنساني المعقدة.
إنها تغفل عن عمد إرثاً غنياً من الفهم المتعمق لآليات اكتساب المعرفة وتطور القدرات. إنها أشبه بمن يُفتتن بجمال اللوحة وينسى عبقرية الفنان الذي أبدعها.
إننا بلا شك في أَمَسِّ الحاجة إلى تبني التكنولوجيا ودمجها في منظومتنا التعليمية بوعي وتبَصُّر. يمكن للأدوات الرقمية أن تعزز تجربة التَعَلُم، وأن توفر مصادر متنوعة للمعرفة، وأن تساهم في تفريد العملية التعليمية لتلبية الاحتياجات الفردية لكل مُتعلم. لكن هذا الدمج يجب أن يكون تكاملياً، لا استبدالياً. يجب أن تكون التكنولوجيا أداة طيعة في يد المعلم الخبير، لا بديلاً قاصراً عن حكمته وإنسانيته.
ختاماً، أرى أن تلك الحملات التي تنادي بالتخلي عن التعليم التقليدي تنطلق من رؤية ضيقة الأفق لطبيعة العملية التعليمية وأبعادها الإنسانية والاجتماعية. إنها تتجاهل الدور المحوري للمُعلم في بناء شخصية الطالب وتنمية ملكاته الشاملة. إن المسار الأمثل يكمن في التكامل الواعي بين الدفء الإنساني للتفاعل التعليمي وبين الإمكانات الهائلة التي تتيحها التكنولوجيا، من أجل صياغة تجربة تَعَلُم أكثر عمقاً وشمولية وفاعلية.