في زمن تتصارع فيه الدول على الأمن الغذائي والقدرة الصناعية والمكانة الرقمية تبدو التجربة المصرية في مشروع «مستقبل مصر» واحدة من تلك الحالات التي تُبنى بعيدا عن الضجيج لكنها تمضي بخطى واثقة نحو صياغة معادلة جديدة للتنمية.
ما بدأ كمشروع طموح لاستصلاح أراض جديدة في قلب الدلتا تحول تدريجيا إلى نواة لفكرة أكبر: أن التنمية الحقيقية لا تُقاس بمساحة الأرض المزروعة فقط بل بقدرة الدولة على بناء نموذج إنتاجي متكامل يبدأ من الأرض ويمتد إلى المصنع ، ويصل إلى الأسواق ، ويستوعب في طريقه التكنولوجيا والرقمنة والشمول المالي.
بعيدًا عن الشعارات ما يحدث اليوم على أرض مشروع «مستقبل مصر» يؤكد أن الرهان لم يكن على الزراعة وحدها بل على تغيير فلسفة التخطيط نفسها. الدولة لم تكتف بتوفير الأرض والمياه والبذور ، بل فكرت في ما هو أبعد: كيف تُصبح هذه الأرض منصة للإنتاج وفرصة لتوطين الصناعة ومدخلا لسوق عمل أكثر تنوعا ومجالا مفتوحا لتجريب نماذج جديدة من الإدارة والميكنة.
الأهم من ذلك أن المشروع لم يبقَ محصورا في إطار جغرافي واحد بل أصبح بمثابة خارطة انتشار تنموي نحو أقاليم كانت دوما على هامش الخريطة. هذا التمدد لا يوزع الفرص فقط بل يعيد ترتيب أولويات التنمية بعيدا عن المركزية المفرطة.
التجربة أيضا لا تخلو من بعد رمزي مهم: إذ تشكل هذه المشروعات نواة لتحول تدريجي في نظرة الدولة إلى مفهوم “الاقتصاد الوطني”. لم يعد المطلوب مجرد مضاعفة الإنتاج، بل بناء منظومات متكاملة تستطيع أن تدير الإنتاج وتتحكم في توزيعه.وتخلق له قيمة مضافة.
ومع دخول أدوات التكنولوجيا في صميم هذا النموذج تبدو الدولة وكأنها تمضي في اتجاه جديد: ليس فقط في استخدام الرقمنة كأداة دعم بل كمحرك أساسي يحدد أساليب الإدارة واتخاذ القرار وربما تسويق المحاصيل والمنتجات ذاتها. وهو توجه ينسجم مع التحولات العالمية لكنه يعكس خصوصية مصرية تستند إلى احتياجات الداخل وإمكاناته.
ما يلفت النظر كذلك هو أن المشروع لا يُقدّم باعتباره إنجازا لحظيا أو دعاية سياسية ، بل كخطوة ضمن مسار طويل، تتراكم فيه المشروعات الصغيرة والكبيرة لتُنتج في النهاية حالة اقتصادية مختلفة. حالة لا تستنسخ تجارب الغير بل تبني تجربتها الخاصة من رحم الضرورة وعبقرية المكان.
من هنا يمكن القول إن “مستقبل مصر” لم يعد اسما لمشروع استصلاح أراضٍ فحسب.بل أصبح تعبيرا عن طريقة جديدة في التفكير حيث لا يتم الفصل بين القطاعات ولا تُدار التنمية بعقلية الجزر المعزولة ، ولا تُقاس الفاعلية بعدد المشروعات بل بقدرتها على خلق تغيير حقيقي في نمط حياة الناس.
إن ما يصنع الفرق الآن ليس فقط كمّ ما ننتجه بل كيف نُعيد تعريف الإنتاج ذاته، وكيف نوظّف كل ما نملك — من الأرض والعقل والإرادة — في خدمة هذا المستقبل.