في زاويةٍ معتمة من هذا الوطن، حيث تتداخل المروءة مع التهور، وتُرتكب الجرائم تحت لافتة "الدفاع عن الشرف"، وقعت جريمة لا تُمثل فقط انتهاكًا صارخًا للقانون، بل تشكّل طعنة غائرة في صميم الأخلاق، وصفعة مدوية على وجه الضمير الجمعي.
بدأت الحكاية بصورة، وانتهت بإنسان منزوع الكرامة، مصلوبًا على خشبة الانتقام، لا لذنب قانوني أو جريمة مثبتة، بل فقط لأنه – في أعين جلاديه – أهانهم. فأرادوا أن يردوا الإهانة بأخرى أكبر:
جردوه من ملابسه، وألبسوه قميص نوم نسائي، ليصبح أضحوكة في هواتف الناس ومادة للسخرية في المقاهي، وسط صمت مخزٍ من الجميع، وعجز واضح عن كبح جماح هذه الممارسات العدوانية. ومن أسفٍ، كانوا يقلدون مشهدا رأوه في عمل درامي.
فهل بلغ بنا الحال أن يتحول العار إلى وسيلة للعدل؟ وهل صار الإذلال ثمنًا يُدفع لاسترداد الكرامة؟ وهل يمكن لمجتمع يدّعي التحضر أن يبرر التشهير العلني باسم الغضب؟ وهل يحق لفرد أن ينصب نفسه قاضيًا وجلادًا في آنٍ واحد؟
ما حدث لم يكن حادثًا فرديًا عابرًا، بل مشهدًا مكثفًا لانهيار منظومة من القيم. لقد قرر بعض الأفراد خوض تجربة "القصاص الشعبي"، متجاوزين الدولة والقانون، مستبدلين العدالة بالعار، والمحاسبة بالتشهير. أرادوا سلب خصمهم "رجولته" كما توهموا، لكنهم – في الواقع – جردوا أنفسهم من إنسانيتهم أولاً، وساهموا في تعزيز ثقافة لا تعرف الرحمة ولا تؤمن بسيادة القانون.
في ديننا الحنيف، الستر فضيلة، والعدالة مبدأ، والانتقام بغير وجه حق محرّم. قال النبي ﷺ: "من ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة."
فأي شرف هذا الذي يُغسل بماء الإهانة؟ وأي رجولة تُقاس بإلباس الضحية ثوب أنوثة قسرًا، وكأن الأنوثة عار يجب التبرؤ منه؟ وهل أصبحت الكرامة لعبة في أيدي الغاضبين؟
لقد تم انتهاك صورة الإنسان، لا جسده فقط. جُرِّد من كرامته، من آدميته، من مكانته ككائن كرّمه الله. والأدهى من الجريمة ذاتها، هو ما أعقبها: لا غضب جماهيري، لا بيان استنكار، لا صرخة من قلب القرية. بل تحوّل المشهد إلى "حكاية طريفة" تُروى، وضحكة ساخرة تُتداول، ومشهد يُستهلك كما تُستهلك الفضائح في زمن اللاوعي.
هنا نلمس أزمة أعمق من الواقعة نفسها: تبلُّد الضمير الجمعي.
إن الصمت على الظلم ليس حيادًا، بل مشاركة ضمنية. والمجتمع الذي لا ينتفض للكرامة، سيُدفن معها يومًا ما. وغياب الاستنكار الشعبي مؤشر خطير على ترسيخ ثقافة التوحش والردع الانتقامي خارج إطار العدالة. فحين نبرر القسوة، نصير جزءًا منها.
إننا نعيش عصرًا صارت فيه وسائل التواصل الاجتماعي ساحة إعدام معنوي، تُنشر فيها الإهانات، ويُعاد تدويرها مئات المرات، دون أن يسأل أحد: أين القانون؟ أين الرحمة؟ أين الدين؟ ولماذا يغيب الصوت العاقل حين يُهان الإنسان بهذا الشكل؟
نحن بحاجة إلى إعادة تعريف الشرف: ليس في صورة تُسرَّب، ولا في لباس يُفرض، بل في السلوك، في العقل، في الرحمة، في احترام القانون. فالقيم لا تُبنى بالتشهير، بل تُصان بالحكمة.
من ينتقم بهذه الطريقة لا ينتصر لكرامته، بل يهينها. ومن يظن أن الرجولة تُثبت بإذلال الآخرين، فقد نسي أن القوة الحقيقية في العفو، لا في الإهانة.
ما جرى جرس إنذار. ليس فقط للعدالة، بل لضميرنا المجتمعي.
ينبغي أن نُعلّم أبناءنا أن من يستر أقوى ممن يفضح، ومن يعفو أشرف ممن ينتقم، وأن الإنسانية لا تتجزأ حسب نوع الملابس أو جنس الضحية.
وفي النهاية، ما نفعله بالآخرين، نفعله بأنفسنا. ومن يُلبس غيره قميص العار... قد لا يجد من يستره يوم يسقط.