نفس العنوان.. والشقتان متجاورتان.. الاختلاف كان فقط في النفوس.. والثقافة.. وبالتالي في التعامل..
الشقة الأولي تسكنها سيدة مسنة، وابنها وزوجته الشابة.
كل صباح يتسلل صوت السيدة المسنة تنادي زوجة ابنها، وقبل مرور ثوان تخرج القذائف من لسانها السليط تتهم زوجة ابنها بعدم الرد عليها، وبعدم إحضار طعام الإفطار والدواء، والزوجة الشابة تتبادل معها الجدال، ثم تحمل إليها مطلبها، وتحمل أيضا الغل والضغينة في قلبها.
أين هي من أمها الحنون؟ فتنساب الدموع الساخنة علي وجنتيها. توجهت خلف النافذة تتأمل المطر الغزير، وتتذكر الأمس الجميل وقت نزول المطر، وحينها كانت تبتهل لله في همس أن يرزقها الفارس الوسيم علي فرسه، وتعيش معه حلم حياتها الوردي تحت مظلة الحب والحماية.
ولكن تأتي الرياح، بما لا تشتهي السفن.. فلاح الفارس علي فرسه يحمل خلفه شريرة تنغص عليها حياتها، وتحطم حلمها الوردي جاعلة منه كابوس..
تنساب دموعها، بغزارة أكثر، مودعة أمانيها، عسي أن تتلاشى الوحشة والكآبة، مع حبات المطر..
تحاول جاهدة، أن تخفي دموعها، وحزنها، عسي أن يلمحها عدو فيشمت، أو يشعر بها حبيب، فيسوءه همها.
تركت النافذة بضع دقائق لتعد فنجان القهوة، وتسمح للصوت النادي أن يسري من المسجل الصغير، ليتخلل أعماقها المتعطشة لكلمات دافئة، تضمد الوحشة بداخلها.
تنادي الأم علي ابنها، وتحكم إغلاق الباب خلفه وتبكي مدعية أن زوجته تسئ معاملتها.. تكيل التهم الكاذبة، ولا تخشي من حفرة ستكون فيها يوما من الأيام.
ينصت الابن لكل حرف، ويغلق عينيه عن الحقيقة، وبعد لحظات تيه قليلة تشب في قلبه الضغينة، ويخرج إليها بوجه غير الوجه الذي دخل به غرفة أمه.
ينظر إلي طعامه، ولا يتناوله..يغلق الباب خلفه في ثورة عارمة، وينطلق إلي عمله، وعلي مكتبه ينظر في الفراغ المحيط به، فيتسلق بنظراته جبال الهم الشاهقة..
لا يطيق لزملائه كلمة..
يردد في همس، أبيات أبي فراس الحمداني:
إذا مت ظمآن فلا نزل القطر
ويتكرر النقاش، ويتبادل الجميع الاتهامات، وينحاز الزوج لأمه..
ما عاد يتعامل بحكمة..
بدأ يتصيد الأخطاء لزوجته، ولا يرضى بمعطيات الحياة التي كانت تبهجه من قبل.. زهد ما بين يديه، فأوشكت زهرته علي الذبول..
الزوجة الصغيرة تهرب من هذه المشاحنات، إلي واحة الصديقات.. تقوم ببعض الاتصالات.. تطلب منهن العون والنصيحة.. تحاول أن تستعيد الزمن الجميل.. تبث إليهن شكواها، فتبادرها ذات الحكمة: التزمي الهدوء، وليكن درعك، من الرقي والتسامح.
وتزيدها في روية: التغافل مطلوب، ومن شيم الكرامّ.
وتهمس لها ذات العزيمة: كوني قوية بما فيه الكفاية، لتحولي نغصة القلب إلي قفزة قوية تتخطين بها حواجز الألم، وقذائف الحمقى.
وتنهال عليها نصائح البلهاء: اهربي بجلدك، واتركي الأبناء، ليعرفوا قيمتك.
وتتعلم الزوجة الصغيرة الخبث والكيد، كرد فعل، فترفع شعار “الهجوم خير وسيلة للدفاع”، ويتحول البيت لحلبة مصارعة، فتضيع السكينة والمودة، فتبيت الشجرة الظليلة، بلا أوراق.
وهكذا تحول البيت، إلي شعلة من الحقد، والكذب، والكره..
كل هذا نتاج بعض الكلمات التي أدمت بهجة البيت، وأطاحت براحة البال، فنفد صبر الزوجة، فتركت بيتها وأطفالها، هربا من السعير، وأصبح الزوج في دوامة بين خدمة أطفاله، وخدمة أمه المسنة.
وعلي الجانب الآخر وفي الشقة المجاورة كانت تعيش سيدة مسنة، والمفارقة العجيبة أنها كانت شقيقة للجارة السليطة، ولكن شتان بين الشقيقتين.
كانت ملامح الطيبة ترتسم علي وجهها، وتمتلك لسانا لا ينطق إلا بالحكمة.. بشوشة، تضع فاصلا بين أوجاعها، وبين معاملة الآخرين.
وعلي هذا تعودت زوجة ابنها أن ترتوي من هذا النبع الطيب، فباتت وأصبحت لا يشغلها إلا أن تفوز بخدمتها برضا وبطيب نفس، ولدتهما المعاملة الطيبة، ودعاء المسنة الحكيمة بأن يلبسها الله ثوب الهداية والستر.
كان بيتهم يشع بالدفء، وكانت خشية الله، تتجسد بينهم، وبين الآخرين.
قمة الرقي إذا تحدثوا ..
حقوق الجيران، يقدمونها علي طبق من ذهب..
واستشعرت المسنة الحكيمة، بأن هناك من يستغيث..
وفي صمت ارتدت حجابها، وفتحت باب شقتها لتطرق الباب علي شقيقتها السليطة دون سابق موعد.
استقبلتها، وفي عينيها استغاثة غير معلنة..
بادرتها الحكيمة مرددة:
ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ..
شعرت المسنة السليطة بوخزة ضمير.. نزلت الكلمات عليها، فبعثرت الكبر، وشهوة التسلط..ترقرقت دموع الندم، في عينيها.. مدت يدها، تطلب النصح، والإرشاد..
همست المسنة الحكيمة : الرجوع عن الخطأ، خير من التمادي فيه..
وفي الأول والآخر، كلمة تزرع السعادة، وكلمة تدمر.