عرف المصريون القدماء حقيقة الحياة الدنيا بأنَّها «مرحلة انتقالية وأنَّ الحياة الآخرة هى الحياة الأبدية السرمدية»
فى منتزه أبى الحجاج
تلقيت مؤخراً رسالة مهمة جداً من جيران أعزاء عشت بجوارهم فى الأقصر أكثر من عشرين عاماً قبل أن تأخذنى النداهة من أحضان طيبة، الأقصر الهادئة الجميلة وتلقى بى فى أتون القاهرة التى بلا قلب، مدينة الصهاريج التى تغلى ليل نهار. لم يكن يفصل بين شقتنا فى شارع محمد فريد بالمنشية عن معبد الأقصر سوى أمتار قليلة.
كانت منتزه سيدى أبو الحجاج التى تقع فى حضن المعبد هى ملتقانا ومرتع صبانا، صيفاً للعب الكرة عصراً، وشتاء بعد المدرسة – وربما خلال اليوم الدراسى- لننهل من دفء شمسها.
تتوسط المنتزه حفرة أثرية مستطيلة مليئة بالقطع الاثرية المكتشفة حديثاً يحرسها عم عبد ربه الخفير النظامى. كنا نلعب كرة القدم بجوار تلك الحفرة التى كنا نطلق عليها «البربى» مفرد «برابى» وهى المكان الذى يضم مجموعة من الآثار قبل أن تمتد إليها يد الترميم والصيانة.
لا أبالغ لو قلت إننا كنا فى بعض الأحيان نستعين ببعض الأحجار من البربى لنصنع بها القوائم اللازمة لكل مرمى. وبعد انتهاء المباراة نعيدها لمكانها..
لا أعتقد أن القدماء المصريين فكروا ولو للحظة أن تماثيلهم تلك يمكن أن تتحول فى يوم ما إلى قوائم مرميين، تتعرض صامدة لركلات الكرة بين فريقين متنافسين من شباب طيبة.
كان عم عبد ربه يعترض طبعًا على لعبنا الكرة بجوار تلك الخبيئة باعتبار أن حمايتها وحراستها هى مسئوليته التاريخية. لكن ولأنه كان يحتاج أن يقوم ببعض المشاوير الخاصة، فكان يغض الطرف عن لعبنا الكرة بجوارها، مقابل أن يكلفنا بحراسة البربى حتى يعود. تربينا ولعبنا بجوار الآثار دون أن يفكر أحد منا يوماً أن يأخذ منها حجراً كل ذلك وجيراننا الأعزاء من قدماء المصريين ممن يسكنون المعبد شهداء علينا.
مسجد فى حضن المعبد
من قلب المعبد تطل مئذنة مسجد سيدى أبو الحجاج وكنا كلما صعدنا للصلاة خاصة صلاة الجمعة، ننظر من مشربيات المسجد المطلة على فناء المعبد. كثيراً ما كنت أسأل نفسى سؤالاً كنت أراه ساذجاً جداً، هل كان أجدادنا القدماء الذين بنوا هذا المعبد سنة 1400 قبل الميلاد يدركون أن زماناً سيأتى بعدهم وتحديداً عام 1200 بعد الميلاد 658 من الهجرة النبوية، يتم فيه إقامة مسجد فى حضن معبدهم. وما هى علاقة هؤلاء الأجداد بالعالم الآخر. كنت أعرف طبعاً أنهم كانوا يؤمنون بالبعث بدليل قيامهم بتحنيط موتاهم وبناء تلك التوابيت ليضعوا فيها مومياواتهم.
لكن هل كانوا يؤمنون بوجود إله خالق للكون ومتصرف وحيد فيه أم كانوا يفعلون ذلك على أساس وثنى بحت. لذا جاءت تلك الرسالة التى تلقيتها من جيرانى القدماء والتى حملها زميلنا العزيز أسامة أبو زيد نائب رئيس تحرير الجمهورية ونال بها درجة الدكتوراه ليثبت تلك المفاجأة المدوية والمفرحة بالنسبة لى، أن أجدادنا وجيرانى الأعزاء كانوا يؤمنون بالله الواحد الأحد. حيث زخرت عقيدة المصريين القدماء عن الحياة الآخرة بالنصوص والصور والأشكال التى تنتشر فى الجبانات وعلى جدران المعابد فى كل ربوع مصر، مما يبرهن على عمق وثراء وتنوع الفكر الدينى وإيمانهم العميق الذى وصل إلى حد الاعتقاد بوجود إله واحد فرد صمد مسيطر على هذا الكون، وإن كان يشوب بعض النصوص الغموض ويصعب تفسيرها، وهذا يرجع إلى تدخلات رجال الدين «الكهنة» الذين يضفون على العالم الأخروى أسرارًا خاصة بهم للاحتفاظ بمكانتهم داخل المجتمع وتحقيق المكاسب المادية.
كما عرف المصريون القدماء حقيقة الحياة الدنيا بأنَّها «مرحلة انتقالية وأنَّ الحياة الآخرة هى الحياة الأبدية السرمدية» لذلك سخّروا حياتهم الأولى فى فعل الطاعات والخيرات واتباع أوامر الإله الخالق لكى يسعدوا فى عالمهم الأخروى، و آمنوا بالبعث والنشور والحساب والجزاء والميزان والصراط والجنة والنار بعد الموت، وبناءً على ذلك يرى الباحث أنَّ كل ما ورد عن مظاهر إيمان المصرى القديم بالحياة الآخرة موافق فى كثير من محتوياته لما جاءت به الأديان والرسالات السماوية التى بين أيدينا الآن
أسئلة مشروعة
السؤال الذى يطرح نفسه من أين عرف المصريون القدماء كل هذه التصورات عن عالم الآخرة، ومن أين استقوا مصادرها، وهل كانت هذه المصادر آثار ديانات سماوية بائدة؟
أم كانت بقايا ديانات وثنية وضعية؟ مع الأخذ فى الاعتبار أنَّ مثل هذه القضايا عن العالم الأخروى ليست مما يدرك بالعقل، أو يخضع لمقاييس المنطق. يقول الدكتور أسامة: إنَّ مشكلة البشرية كانت وما زالت هى التعويل على العقل بشكل مفرط وجعله حاكمًا وسيدًا على كل الأشياء الموجودة فى الكون حتى وصل الأمر بهم إلى جعل الغيب فى ميزان العقل، كما بيّنت الدراسة معتقدات المصريين القدماء حول العالم الآخر ومراحل تطورها وتطرقت إلى ماهية الموت وأنواعه واستعدادات المصريين القدماء إلى هذا العالم الذى يتطلب منه تشييد المقبرة وتقديم القرابين وزيارة الموتى بصفة مستمرة وفى المواسم والأعياد وكان الإنفاق على ذلك من خلال الأوقاف التى يوقفها الميت فى حياته الدنيا ويعهد إلى ابنه الأكبر فى القيام بهذه التدابير. وعرف المصرى القديم مسألة تلقين الميت والتى تعد فلسفة لاهوتية مصرية خالصة سبقت بها كل الرسالات السماوية.
ولأن كل إنسان يولد بفطرة سليمة لم أندهش مما جاء فى ذلك البحث القيم عن علاقة الإنسان بمعبوده وسعيه الدؤوب إلى إرضائه من خلال تقديم القرابين وصيانة المعابد وعدم ارتكاب الموبقات بها وكانت الطهارة شرطًا لدخولها وكذلك علاقة الإنسان مع أخيه والمجتمع فى ضرورة إقامة العدل» ماعت» للحفاظ على النظام الكونى واتباع قواعد السلوك القويم. حيث جاءت مكونات الإنسان سببًا رئيسيًا فى إعادة البعث للميت فى عالمه الأخروى وذلك من خلال محاولاته المستبسلة فى حفظ الجثة فتوصل إلى التحنيط الذى برع فيه وميزه عن بقية الشعوب القديمة لضمان عودة الروح إلى جسد الميت.
شعب متدين بطبعه
يبدو أن تعبير شعب متدين بطبعه الذى نطلقه كثيرًا على أنفسنا كشعب مصرى له جذور تاريخية حيث تطرقت الدراسة إلى القيم والمبادئ الأخلاقية والرقى والنضوج الفكرى لدى المصرى القديم والتى تناولتها- كتب الآداب والحكم والأمثال- فيما عرف بمسألة محاكمة الموتى والميزان وأنَّ الحياة الدنيا ما هى إلا صراع بين الخير والشر وسوف يأتى يوم للحساب يقتص فيه الإله من الظالم وترد الحقوق إلى أصحابها، مما يبرهن على عمق الفكر الدينى بثرائه وتنوعه وإيمانه الثابت.
فقد كان المصرى القديم يؤمن بوجود النعيم فى عالمه الأخروى «الجنة» والتى صورها على أن بها أنهارًا من خمر وعسل مصفى وليس بها تعب ولا نصب وفيها فواكه من عنب ورمان وبها تزاور الرجل مع زوجته وأهله وأحبائه وفيها كل المتع الحسية والجسدية وهذا ما يتفق مع الفكر الإسلامى.
وكشفت الدراسة عن أساليب تنوع عقاب المذنبين والملعونين سواء بالحرق فى بحيرات وحفرات ومراجل النار مفصولى الرأس، أو بتقييد أذرعهم وتركهم فى وضع مقلوب، وضرب العنق بالسيف وما يتبعها من فصل الأعضاء وغيرها وهذه الأساليب العقابية فى الحياة الآخرة صورها القرآن الكريم والسُّنة النبوية الشريفة فى مواضع متعددة.
والحقيقة التى لا يستطيع أحد أن يغفلها من الباحثين أنَّ المصريين القدماء تركوا لنا تراثًا إنسانيًا من الآداب والحكم والأمثال توارثتها الأجيال جيلًا بعد جيل، وكانت نبراسًا تضيء لهم الطريق عبر العصور والأزمان سابقة بذلك كل الأديان والرسالات السماوية ويهدف بها معانى أسمى ومقاصد أنبل تخلد ذكراه وترفع من شأن قومه وفيها سبل الفلاح والنجاح فى الحياة الدنيا وتجعله مقبولًا فى عالمه الأخروى، وهى أبقى من البروج المشيدة من الحديد والنحاس وأيقن أن كل صروح الحياة عرض زائل.
كما أنَّ التفكير فى الموت والأبدية كان حافزًا يدفع الإنسان إلى أن يسلك الصراط السوى فى الحياة الدنيا مخافة الله إذ أنَّ الله هو الذى يسعد ويشقى.
رحمة المصريين
شغلتنى كثيرًا معرفة من أين انتقلت إلينا بعض العادات والتقاليد حتى عرفت مؤخراً أنها جاءتنا من مصر القديمة سواء العادات السيئة مثل الحداد على الميت بقيام النائحات اللاتى يمزّقن ثيابهن ويقمن بلطم الخدود و الصياح على الميت، فضلًا عن قيام الرجال بإطلاق لحاهم وشعرهم، أو العادات الحسنة مثل توزيع الأطعمة والفواكه والمشروبات على المقابر فى الأعياد والمناسبات، ونحر الذبائح وهو ما يعرف فى مصرنا الحديثة « بالرحمة»، فضلًا عن وضع أكاليل من الزهور على المقابر، وحمل الأعلام والموسيقى، وتأبين الميت فيما عرف بالخميس والأربعين والذكرى السنوية، ووضع الشواهد على القبور إلى غير ذلك والتى يتنافى أغلبها مع الشرع الإسلامى.
فرحتى الشديدة بهذا البحث المهم ليس لكونه فقط أثبت أن القدماء المصريين كانوا يؤمنون بالله الواحد الصمد ولكن لأنى أتوقع أن تفتح شهية الكثير من الباحثين فى مجال مقارنة الأديان بتناول جوانب أخرى فى الحضارة المصرية القديمة ومقارنتها بالعقيدة الإسلامية كالضمير والأخلاق والسلوك الإنسانى والأسرة والنظم الاجتماعية والسياسية والثقافية والأدبية والقانونية وغيرها.
آخر الرحلة
أفضل أن أدس أنفى بين دفتى كتاب على أن أدسها فى شئون الآخرين!