أظنك تعلم أن الأدب الرفيع يسهم بنصيب وافر في رقي الذائقة البشرية، وأتخيل أنك على دراية بأن قصائد شوقي وروايات محفوظ، على سبيل المثال، كان لهما الفضل الكبير في تعزيز وعي المرء بنفسه وبلده ولغته وإنسانيته.
من هنا أتساءل: متي نقرر أعمال الروائي الكولومبي عظيم الشهرة جابرييل جارسيا ماركيز على طلاب المدارس والجامعات في مصرنا المحروسة؟
فهذا الأديب العالمي الذي نال جائزة نوبل عام 1982 يعد واحدًا من العباقرة الذين أدركتهم حرفة الأدب على مر العصور.
قبل يومين، وبالتحديد في 17 أبريل مرت الذكرى العاشرة على رحيل ماركيز، أحد النوابغ الذين كتبوا الرواية، حيث يمكن القول بكثير من اليقين إن الرواية العالمية قبل ماركيز شيء، وبعد حضوره المشرق في حياتنا الأدبية شيء آخر،
فالرجل وثب بفن الرواية وثبات مذهلة إلى الأمام، فأمدّها بطاقات خلاقة منحت القارئ معارف أكثر عن طبيعة النفس البشرية بكل طموحاتها وأحلامها وانكساراتها وتناقضاتها وشرورها،
وفي الوقت نفسه وهبت الرواية الماركيزية قرّاءها المتع الفنية الباذخة.
من أبرز أعمال ماركيز (مولود في 1927) روايات (سرد أحداث موت معلن)، (ليس لدى الكولونيل من يكاتبه)، (في ساعة نحس)، (مائة عام من العزلة)، (خريف البطريرك)، و(الحب في زمن الكوليرا)، فضلا عن مجموعات قصصية كثيرة.
عندي، فإن رواية (سرد أحداث موت معلن) تصلح تمامًا لإقرارها على طلاب المراحل الثانوية، فهي رواية صغيرة تتسم بحبكة متينة مثيرة تأسر ألباب الطلاب وتفتح المجال واسعًا أمام الخيال لينمو ويزدهر،
فمن واجبات مناهج التعليم رعاية خيال الطالب وتشجيعه ليفكر ويبتكر ويقتحم آفاق مجهولة لم يكن يعرفها من قبل،
فالخيال هو الباب السحري لتطور العلم والأدب، ولولا خيال العلماء وأحلامهم ما اخترعوا لنا كل فواكه التكنولوجيا التي نتمتع باستخدامها الآن، وما أكثرها.
وبصراحة لا يصح أن نترك وضع مناهج اللغة العربية للسادة موجهي اللغة العربية فقط، مع كامل احترامنا لهم،
وإنما علينا إشراك الأدباء الكبار المتميزين وعلماء النفس في وضع هذه المناهج، فأولئك وهؤلاء قادرون على اختيار أفضل النصوص الأدبية التي تلائم عُمر الطالب وجهازه النفسي، فتعمل على تطوير ذائقته ومعارفه.
أما طلاب الجامعات، فيجب أن يكون لماركيز ونجيب محفوظ نصيب معتبر في المناهج المقررة عليهم، ولست أقصد هنا طلاب كليات الآداب واللغة العربية فقط،
وإنما جميع الكليات المتخصصة، فطالب الهندسة والطب والعلوم والإعلام والفنون الجميلة والآثار والتاريخ يجب أن يطالع، ضمن المنهج المقرر، روايات محفوظ وماركيز وقصائد شوقي ونزار قباني وصلاح عبدالصبور وأحمد عبد المعطي حجازي ومحمود رويش وغيرهم،
حتى يغدو لدينا الطبيب المثقف المستنير والمهندس المثقف الواعي، ولعل نظرة سريعة على نقابات الأطباء والمهندسين تكشف لنا حجم الأعضاء الذين ينتمون إلى جماعات التيارات الدينية المتشددة بتنويعاتها المختلفة،
الأمر الذي انعكس بالسلب على حياتنا اليومية بامتداد نصف قرن من الزمان.
إن قراءة ماركيز والذين معه من الكبار ليس من باب الرفاهية الأدبية فحسب، وإنما من أجل تأسيس جيل جديد واسع الأفق قادر على استيعاب فكرة أن الحياة تتسع للجميع،
وأن كراهية الآخر ومخاصمته تحت أي منظومة فكرية أو دينية يعد كارثة تدمر مستقبل البشرية،
وأننا مطالبون بتقدير الخيال وتعظيمه حتى تتسنى للأجيال القادمة فرص أوسع في البحث والابتكار والاختراع.
لا تقل لي إن إبداع ماركيز لا ينتمي إلى ثقافتنا المصرية العربية، لأن الأدب العالمي الرفيع يخاطب الإنسان في أي مكان وزمان،
فنحن نقرأ شكسبير حتى الآن، والعالم يطالع روايات محفوظ باندهاش، فليتنا نتعامل مع ماركيز في مناهج التعليم بما يليق بموهبته الخارقة.