تتجلى في سورة يوسف عدة مواضيع نفسية هامة، تشكل دروساً وعبراً لمن أراد التعلم والاعتبار؛ فالسورة حافلةٌ بمشاهد تتجلى فيها انفعالات الغيرة، والحزن، والغضب، والخوف، والسرور، وبمشاهد الابتلاء للنبي يوسف – عليه السلام – ابتلاء بغيره الإخوة، وابتلاء بالفتنة، وابتلاء بالسجن،
وابتلاء بالملك والقوة، وفي السورة أيضاً مشهد لابتلاء النبي يعقوب – عليه السلام – بفقدان ابنه، وفقدان بصره، ومشهد لصبره الطويل، وعدم تسرب اليأس إلى قلبه رغم معاناته الشديدة. وتبين السورة أن طول الابتلاء – مهما طال – لا يعني اليأس من روح الله، والسورة حافلة أيضاً بمشاهد تتحقق فيها الرؤى؛ رؤيا صاحبَيْ يوسف في السجن، ورؤيا الملك، ورؤيا يوسف – عليه السلام.
وتوضح السورة انطباق سنن الطبيعة البشرية وقوانين تدافع قوى الشر والخير على الأنبياء والرسل، وإن كان الوحي يوجههم ويعصمهم من الزلل، كما توضح السورة مدى تحمل الأنبياء للأحزان والابتلاء والفتن، وتقدم السورة أيضاً نموذجاً للسموِّ الأخلاقي، والعفو عند المقدرة، من طرف قائد تولى أمانة الحكم في سنوات الرخاء وسنوات الشدة، وساس البلاد والعباد بالعدل والإحسان، فأخرج البلاد من الأزمة، وأغاث الناس الذين مسهم الضر في مختلف المناطق.
وتبيِّن السورة في الجانب النفسي دور الانفعالات في تحريك السلوك، كما تبين تفاعل وتكامل مختلف الجوانب التي تكوِّن الإنسان: الأبعاد الجسمية، والروحية، والعقلية، والوجدانية، والسلوكية، وكيفية تأثير كل جانب في الجوانب الأخرى، وتأثره بها.
ويلاحظ المتأمل في قصة يوسف مدى عمق الانفعالات التي تحرِّك الإنسان، وشدتها في دفعه للقيام ببعض أنماط السلوك، كما يلاحظ دور الإيمان – والجانب الروحي عموماً – في ضبط الانفعالات ومراقبتها، ودور تحكيم العقل في إعادة التوازن للجانب الانفعالي المضطرب، وفي ظهور الانفعالات الإيجابيَّة، بدلاً من الانفعالات السلبيَّة التي تطغى على سلوك الإنسان.
وباختصار؛ فإن سورة يوسف – عليه السلام – عبارةٌ عن آيات متناغمة، تتماوج فيها الانفعالات ظهوراً واختفاءً، قوةً وضعفاً، حسداً وإيثاراً، حباً وكراهيةً، حزناً وفرحاً، غضباً وسروراً. وهذه القصة نموذج أيضاً لتعليم الناس عموماً، والنشء خصوصاً؛ لتهذيب سلوكهم، وضبط انفعالاتهم، وكيفية الرجوع إلى الحق والفضيلة بعد الخطأ والرزيلة، باستعمال القصة الهادفة.
وينبغي أن أنبِّه في آخر هذا التقديم: أن محاولة القراءة هذه ليست تفسيراً للقرآن الكريم؛ بل هي محاولة لفهم القرآن الكريم من منظور علم النفس العام، ولا ينبغي أن يُفهم أن هذه المحاولة عبارة عن عمل نهائي في هذا المجال؛ بل عبارة عن تجربة أراد كاتبها أن يخوضها، وأن يقدمها للباحثين والمهتمين للمناقشة والإثراء.
كان النبي يوسف عليه السلام ، الأثير عند والده ، النبي الكريم يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم فحقد عليه إخوته من أبيه، وحاولوا القضاء عليه، ومحاولاتهم كشفت لأبيهم عن طريق الأحلام، وكتمها في نفسه، لأنها واقعٌ لن يستطيع تغييره.
قال تعالى: (إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين) [سورة يوسف – الآية: 4 -5].
إن هذه الرؤيا رمزية تشير إلى ما سيكون عليه يوسف عليه السلام، ومكانته العظيمة بين الناس وإخوته. فالكواكب إخوته، والشمس والقمر أبواه، وسجودهم دليل علو مكانته على الجميع، والسجود هو التحية المتعارف عليها قديماً قبل ان يأتي أمر من السماء بإلغائه.
كان يوسف صبياً أو غلاماً صغيراً، وهذه الرؤيا كما وصفها لأبيه ليست من رؤى الصبية ولا الغلمان، ولو كانت رؤيا غلام عادي لرأى النجوم كالحجارة يلعب بها، أو يطولها، أو يعبث بها؛ ولكن يوسف رآها ساجدة له متمثلة في صورة العقلاء الذين يجنون رؤوسهم بالسجود تعظيماً؛ فالرؤيا ليست مشاعر مضطربة، بل صوراً مستقبلية مدونة في الغيب، أطلعه الله عليها قبل أن تحدث بسنواتٍ عديدة.
وتبدأ رحلة يوسف التي سيتغير وضعه الموعود به من خلال إخوته الذين سعوا للخلاص منه، فوضعوه على عتبة المجد عندما ألقوه في البئر.
قال تعالى: (وجاؤوا اباهم عشاءً يبكون، قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمنٍ لنا ولو كنا صادقين، وجاؤوا على قميصه بدمٍ كذبٍ قال بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون) [سورة يوسف – الآية: 16-18]. لم يصدق النبي يعقوب تفسير أولاده لضياع يوسف منهم لأنه نبي، ويوحي له عن طريق الرؤيا ما سيحدث، ويعلم مسبقاً ما يدور بذهن أولاده
ومصير يوسف الذي دبره الإله لحكمةٍ وأمرٍ عظيم سيتحقق على يد يوسف، ولكن يعقوب أبٌ يحزنه فراق ولده رغم علمه أنه بعهدة الإله العظيم.. فهو لا يستطيع اعتراض أمرٍ إلهي، ولا يستطيع كبح حزنه لفراقه.. فالرؤيا للنبي يعقوب كانت تسرية عنه ليطمئن قلبه ويتصبر.
قال تعالى: (قالوا يا أبانا مالك لا تأمنا على يوسف وإنا له لنا صحون، أرسله معنا غداً يرتع ويلعب وإنا له لحافظون، قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون) [سورة يوسف – الآية: 11-13].
ومن الأدلة الصادقة حول الرؤيا أن يعقوب عليه السلام قد سبق في ذكر حجته حول ما سيقدمه أولاده بشأن غياب أخيهم يوسف، وكان علمه سابقاً للحدث عن طريق الوحي.
وبالفعل جاء أولادُ يعقوب فقالوا: قال تعالى: (قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمنٍ لنا ولو كنا صادقين) [سورة يوسف – الآية: 17].
وعندما نتابع أحداث القصة نجد أن بعض السيارة من علية القوم التقطوا يوسف من البئر، وفرحوا به، وعاش في قصر العزيز وتربى أحسن تربية، وتعلم، وعندما راودته امرأة العزيز عن نفسه التجأ إلى اللَه، فكانت الحكمة الإلهية أن يسجن كما تمنى هو وتعبر الآية القرآنية عن ذلك. قال تعالى: (قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين) [سورة يوسف – الآية: 33].
وكانت الخلوة في السجن إعداداً ليوسف للمهمة العظيمة التي تنتظره أن يحكم مصر، وينشر التوحيد.
وبدأ الإله يمهد لخروج يوسف من السجن منصوراً، ورتب لهذا الأمر بحكمةٍ عظيمة، عندما حلم مسجونان معه حلماً فسره لها النبي يوسف الصادق والذي حاز على إعجاب من حوله بنبله والأمور المثيرة التي تدور حوله عند ما كان يتعبد.
قال تعالى: (ودخل مع السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمراً وقال الآخر إني أراني أحملُ فوق رأسي خبزاً تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين) [سورة يوسف – الآية: 36].
ففسر النبي يوسف لهما الرؤيا: قال تعالى: (يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمراً وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الأمر الذي فيه تستفتيان، وقال للذي ظنَّ أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكره ربه فلبث في السجن بضع سنين) [سورة يوسف – الآية: 41-42].
وهكذا نجد أن هذه الرؤيا للسجينين مع يوسف سبب لذكر يوسف بالخير عند الملك. لقد صدق يوسف بتفسير الرؤيا للرجلين فواحدٌ صلب حتى الموت، والثاني نجا وعاد لخدمة الملك، ولكن نسي ما طلب منه يوسف أن يذكره لربه، أي الملك سيده لحكمه وعندما آن الأوان حلم الملك حلما أفزعه، وأراد له تفسيراً فتذكر السجين الذين نجا قدرة يوسف على تفسير الرؤيا، فأرشدهم له ومدحه. فذهبوا له بالرؤيا ليفسرها ففعل:
قال تعالى: (وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون، قالوا أضغاث أحلامٍ وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين، وقال الذي نجا منهما واذكر بعد أمةٍ أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون) [سورة يوسف – الآية: 43 – 45].
ففسر يوسف الرؤيا كما تبين الآية: قال تعالى: (قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون، ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا ما تحصنون، ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون) [سورة يوسف – الآية: 47 – 48]. وأعجب الملك بقصة يوسف، وطلب أن يحضروه مجلسه، فاعتذر عن عدم الحضور، حتى يحقق الملك بأمر النسوة اللاتي قطعن أيديهن، والتهم التي لحقت به.. وتحقق ما اراده عندما اعترف الجميع ببراءته رسمياً امام الملك، وظهور مواهبه التي تؤهله للمكانة المرموقة التي تنتظره.
وفي التحقيق اعترفت زوجة العزيز ببراءته وجميع النسوة، وكذلك أشدن بروعة أخلاقه، والقرآن يبين ذلك، قال تعالى: (قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين) [سورة يوسف – الآية: 51].
وعندما علم الملك ببراءته استدعاه ليكرمه: قال تعالى: (وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال آنك اليوم لدينا مكينٌ أمين، قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظٌ عليم، وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين) [سورة يوسف – الآية: 54-56].
وهكذا أصبح يوسف مفوضاً على عرش مصر تدين له الرقاب، وله سلطانٌ عظيم، وآن الأوان أن يستدعي والديه وإخوته، فكان كمال تحقق رؤيا يوسف التي اطلعه عليها رب العالمين؛ قال تعالى: (فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين، ورفع أبويه على العرش وخروا له سجداً
وقال يا ابتِ هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغَ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيفٌ لما يشاء إنه هو العليم الحكيم) [سورة يوسف – الآية: 99 – 100].
هذه قصة رؤيا يوسف ورؤيا أبيه ورؤيا الملك، كل الرؤى توحي بحدوث أمورٍ هامةٍ مسجلةٍ عند اللَه بسابق علمه، وحياةُ كلِّ إنسان مدونةٌ تشهد على فعله، فمن ذا الذي ينكر البعث? ولم يدون في سجل الإنسان عند ربه أفعاله? أليس لأن هناك يوماً مشهوداً يحاسب فيه العباد?? الإنسان مراقبٌ في كل نفس يتنفسه، وكل فعل يقترفه، فليشفق الإنسان على نفسه، وليبادر لفعل الخير قبل فوات الأوان.
دكتور القانون العام ومحكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان