لأن قلة الأدب أصبحت مع الأسف هى السمة الغالبة على كثير من الناس هذه الأيام، يحق للكون أن يحزن لرحيل رجل مؤدب، مثل الصديق والقريب والنسيب والحبيب «على محمد محمود» أو «على الشيخى» كما كان لقبه الأثير الذى كان معروفا به فى مدينتنا البياضية عاصمة الأقصر وضواحيها، كلما ذكر اسم على الشيخى أمام الناس لا يقال إلا: يكفيه أنه كان مؤدبا فى زمن عز فيه الأدب وتراجعت فيه الأخلاق. لم نسمع منه عيبا طيلة حياته.. شهادة من البشر لواحد منهم قضى عمره.. لم يسمعه أحد شاكيا عابسا بل كان مبتسما شاكرا فى كل أحواله، فى الفرح عندما أدى رسالته تجاه أسرته وعائلته، وفى القرح الذى مسه منذ سنوات عندما اكتشف مرضه بفيروس سى وتداعياته.
قطعت الطريق صباح الخميس الماضى، من بيتى فى أول البلدة إلى مسجد اسامة فى الطرف الآخر منها، لتأدية صلاة الجنازة عليه وتشييعه إلى قبره. وفود النساء اللائى كن فى طريقهن للجنازة متشحات باللون الأسود لم تتحدث إلا عن حسن خلق الرجل، حتى من لا تعرفه معرفة شخصية ذهبت تشارك فى التشييع، سمعت أكثر من واحدة تردد بلهجتنا الصعيدية المحببة متسائلة مستنكرة: «هو كان فيه حد عاد فى أدبه وأخلاقه؟!» أما من كن يعرفنه معرفة شخصية وتعاملن معه بحكم عمله فى إدارة الكهرباء بالبياضية، فقد أجمعن على أنه لم يرفع عينه أبدا من الأرض وهو يتحدث مع أى واحدة منهن.. وأنه لم يبخل بمد يد العون لكل من يلجأ إليه وأنه كان من الساعين فى قضاء مصالح الناس فى أى وقت.
زوجته المكلوم تشهد له وتودعه أثناء التشييع مؤكدة أنه أحسن عشرتها وأنها لم تر منه إلا كل خير واحترام، كان لا يطيق البعد عنها كثيرا، حتى عندما يحاول بعض أصدقائه المقربين اغراءه بمجالستهم والسهر معهم فى منتدياتهم الصيفية على الجسر، لم يكن يسامرهم أكثر من ربع ساعة، ثم يغادرهم مسرعا إلى بيته وسط ضحكات الأصدقاء التى تودعه، مؤكدة أن هذا هو الرجل الذى لا يطيق فراق زوجته، ويعلق أحدهم قائلا: يبدو أنه قادم من كوكب آخر! فيضحك على ولا يرد عليهم إلا بقول الرسول الكريم: رفقا بالقوارير. كان نموذجا للصعيدى المثالى الذى يحمل قلبا محبا للناس كل الناس،عاطفيا لأقصى درجة حتى أنه قد ينفعل ويحزن لمشكلة أو ألم شخص فى مسلسل أو فيلم.. قويا فى الحق، لا يطيق أن يرى مظلوما فيحاول قدر استطاعته رد الظلم عنه. ولا ظالما دون زجره، اذكر زمان كان هناك مسلسل عربي اسمه «وعاد النهار» وكان من ابطاله الفنان احمد عبدالوارث وكان يلعب دور صعيدى اسمه هاشم يحب جارته يسرية «عزة كمال» التى كانت تتلاعب بمشاعره وتحاول استغلال حبه لها فى عملية نصب، ورغم تحذير كل الأسرة له إلا أن هاشم لم يكن بالمصدق فيها قولا. ولك أن تتخيل درجة تعاطف اخينا على الشيخى مع هاشم فكان على يقترب من الشاشة كلما ظهرت البطلة ويحدثها وكأنها تسمعه محاولا إقناعها بأن ما تفعله مع هاشم عيب ولا يصح! كان الرجل أبا مثاليا يشهد بحنانه وطيبته أولاده وبناته محمد وأحمد وفاطمة ومروة الأطباء والمهندسون والمحاسبون، بارا بكل أفراد عائلته سواء من هو مقيم معه فى بيت العائلة بالبياضية أو فى البحر الأحمر وغيرها من المدن، جارا يشهد له جيرانه بحسن الجوار وموظفا نموذجيا بشهادة الجميع.
رحمك الله يا على واسكنك الفردوس الأعلى من الجنة وثق بأنك ستظل رغم رحيلك حيا فى قلوبنا، فالسيرة أطول من العمر.