أيام قليلة وتشرق انوار الشهر الفضيل .. شهر الصيام والقيام والقرآن ..والصيام هو اقوى دليل وأصدق مؤشر على قوة الانضباط والالتزام ..وهو القوة المعززة للقوى الروحية الدافعة لكل معاني الخير والحب والجمال ..
عبقرية رمضان لا تتوقف عند حدود الصيام وأداء الفريضة وإقامة أركانها والالتزام بواجباتها ولكن فيما تقيمه وتنشره من ظلال وارفة على مناحي الحياة العامة والخاصة على السواء..
تتجلى قيمة قوة الانضباط الأخلاقي والسلوكي المادي والمعنوي في مواجهة الفوضى الخلاقة وغير الخلاقة .. الفوضى على صعيد القيم والأخلاق وعلى صعيد إيقاع الحياة المعاصرة المليئة بالاشواك المحفوفة بالمكاره الغارقة في الأنانية وحب الذات المخاصمة لقاعدة ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خاصة ..
المجتمع المعاصر في أشد الحاجة إلى قوة الانضباط التى يفرضها رمضان بعباداته الخاصة والمخصوصة واجوائه الروحية وسلطانه الادبي على الجميع فضلا عن السلطان الديني الذي يلقى قبولا واستحسانا وتعاضدا حتى من الآخر المختلف عقديا الذي يرى فيه نفحات علوية واشراقات سامية تلقي بظلال حانية تعجز معها المردة من بني البشر على الاختراق والتشويش ..
غياب قوة الانضباط تهدد بالخروج من رمضان صفر اليدين تجعل الحصيلة محصورة في “ليس له من صيامه الا الجوع والعطش “وفقط ويصبح كالمنبت لا ظهرا أبقى ولا أرضا قطع..
الظروف الضاغطة تحتم الالتزام بروح الانضباط وأخلاقيات رمضان ليتحقق معنى الصيام الحقيقي .. وفي المقدمة أن نتخلى عن كل مظاهر الاسراف والتبذير وتحويل الشهر الفضيل إلى مناسبة استهلاكية في المقام الأول لا علاقة لها بروحانيات ولا اخلاقيات صوم ..
ليس معنى هذا منع وتقتير ولكن المراد اقتصاد وتدبير ومراعاة لواقع الحال وما تفرضه ضرورة اللحظة التاريخية من اعتدال وإيثار والبعد عن التكويش والتخزين بغير ضرورة والحاجة الضرورية.. اذا كان هذا على مستوى الفرد فالانضباط المطلوب او المنشود على مستوى الجماعة اشد وفي الفئات المختلفة وخاصة التجار واصحاب وارباب الاعمال وغيرهم ممن لهم اتصال او احتكاك مباشر مع دنيا الناس فلا استغلال ولا احتكار او تضييق أو المساهمة في خلق أزمات بغير داع أو ضرورة او حتى اكراه لقبول ما لا يقبل او التلاعب بالمشاعر وما فوقها او دونها لتحقيق مكاسب رخيصة قد تكون سببا في ان تكوى بها جباههم وجلودهم.
هذا انضباط على مستوى الاستهلاك والاقتصاد وتلبية الحاجيات الضرورية ..هناك انضباط آخر لا يقل أهمية المرتبط على وجه التحديد بالترفيه والتسلية والتى تقلب المعادلة من سل صيامك إلى ضيع صيامك بارادتك واختيارك أو قل باستسلامك للاغراءات والمغريات الكثيرة التى تتساقط على رؤوس العباد وتنتظر رمضان بفارغ الصبر لتفريغ الصيام من مضامينه الروحية وسلب توجهاته السامية للعالمين..
قوة الانضباط هي السياج الحامي من السقوط في فخ وسائل الأغواء المتعددة من التلفزيون والبرامج إياها شديدة السطحية والبلاهة والنت والسوشيال ميديا وما ادراك ما هي نار حامية..
اتذكر هنا مواقف رائعة لفضيلة العالم الجليل الدكتور عبد الودود شلبي رحمه الله الأمين العام المساعد الأسبق لمجمع البحوث الإسلامية ورئيس اللجنة العليا للدعوة أن كان من أشد المنادين بوضع جدول مكتوب لمشاهدة برامج رمضان تحدد فيه ما يجب ان تشاهد وما يجب اجتنابه وكذا جدول التغذية الروحية وجرعات العبادة والذكر وقراءة القرآن الكريم ..وكان يكره أن تترك الأمورتسير على عواهنها بلا ضابط أو رابط ..
وهومنهج سليم وعلمي لأن القوى المسلطة والمتسلطة على المشاهد أو الصائم في رمضان قوى جبارة وتمتلك من أسلحة الغواية والاغراء ما يكفي لسلب لب المشاهد وتجريده حتى من دينه لا يهم ولعلنا نشاهد هجوم المسلسلات وبرامج المسابقات والخرافات والتخريفات إياها والحوارات الفارغة مع اهل المغنى وغيرهم تملأ كل الفضائيات بكلام فاضي وبصورة تفوق أي تصور وفوق قدرة من يريد أو يبحث عن فرصة تعزز وتقوي من إيمانه..
في وقت تغيب فيه تماما ولا نقول تندر المسلسلات الدينية المحترمة أو الدرامية الجادة التى تحمل مضمونا وقيما ثقافية وعلمية ووطنية وغيرها..اللهم إلا بعض الأعمال التى شاهدناها العام الماضي برعاية من القوات المسلحة والشىون المعنوية .
خاصة في مثل هذه الاوقات التى تشهد حروبا عنيفة على الهوية وتركز على الاستلاب الحضاري وخلق اجيال مشتتة ضائعة مذبذبين لا الى هؤلاء ولا الى هؤلاء.
فمعركة الوعي من اشد واخطر المعارك المعاصرة وتستغل فيها شتى انواع الاسلحة المشروعة وغير المشروعة والرابح او المنتصر في المعركة هو من ينجح في توفير حصانة قوية وخطوط دفاع امامية وخلفية وحوائط صد قوية للدفاع ولمواجهة كل اشكال الغزو ومحاولات الهيمنة الثقافية والفنية فضلا عن السياسية والاقتصادية ووكذا كل ما يسهل ويفتح ابواب التبعية على مصاريعها في كل المجالات.
لايمكن ان نغفل او نقلل من اهمية ودور القوافل الدينية والمنتديات والسرادقات عقب العشاء أو في السهرة .. والتى اضحت علامة مميزة من علامات رمضان .. وكانت بوابة ملكية قدمت عددا غير قليل من نجوم دولة التلاوة القرانية والابتهالات الدينية وكذلك العلماء والمفكرين ..لعلها تكون الان في ظل حالة الجفاف والقحط الثقافي رافدا مهما لثقافة أصيلة وتقديم مساهمة تنويرية حقيقية في اتصال مباشر مع الجماهير .. ونشير هنا إلى ما يقوم به الأزهر والأوقاف والتعاون المشترك على هذا الصعيد لإحياء ليالي الشهر الفضيل..
ومن يمن الطالع أن يأتي رمضان وقد تم التخفف من الإجراءات الاحترازية نوعا ما وهو يعطي بارقة أمل على إقامة السرادقات العلمية في القاهرة والمحافظات ويعود الجمهور للالتقاء بكبار العلماء والمفكرين في مناحي المعرفة المختلفة.
**من جميل ما قرات في تفسير قوله تعالى :”اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ “ان الله تعالى يخبر عباده بلطفه
ليعرفوه ويحبوه ويتعرضوا للطفه وكرمه واللطف من أوصافه تعالى ومعناه: الذي يدرك الضمائر والسرائر الذي يوصل عباده -وخصوصا المؤمنين- إلى ما فيه الخير لهم من حيث لا يعلمون ولا يحتسبون.فمن لطفه بعبده المؤمن أن هداه إلى الخير هداية لا تخطر بباله بما يسر له من الأسباب الداعية إلى ذلك ومن فطرته على محبة الحق والانقياد له أن يثبتوا عباده المؤمنين ويحثوهم على الخير ويلقوا في قلوبهم من تزيين الحق ما يكون داعيا لاتباعه.ومن لطفه أن أمر المؤمنين بالعبادات الاجتماعية التي بها تقوى عزائمهم وتنبعث هممهم ويحصل منهم التنافس على الخير والرغبة فيه واقتداء بعضهم ببعض.
ومن لطفه أن قيض لعبده كل سبب يعوقه ويحول بينه وبين المعاصي حتى إنه تعالى إذا علم أن الدنيا والمال والرياسة ونحوها مما يتنافس فيه أهل الدنيا تقطع عبده عن طاعته أو تحمله على الغفلة عنه أو على معصية صرفها عنه وقدر عليه رزقه.
اللهم بلغنا رمضان وأنت راضٍ عنا، واجعله شهراً تتبدل فيه ذنوبنا إلى حسنات وهمومنا إلى أفراح.وأذقنا حلاوة ذكرك واوزعنا فيه لأداء شكرك بكرمك واحفظنا فيه بحفظك وسترك يا رب العالمين.
والله المستعان .
megahedkh@hotmail.com