كشف استشهاد الإعلامية شيرين أبو عاقلة صباح الأربعاء الماضى مدى هشاشتنا، وعدم قدرتنا على الثبات فى موقف واحد، وأكد أن لدينا قابلية عجيبة للتفكك والسقوط فى فخ الإلهاء، والاستجابة لكل من يريد أن يتلاعب بنا ويوجهنا حيث يشاء، فبعد أقل من ساعة من تفجر الغضب العارم إزاء مقتل المناضلة الفلسطينية على يد الصهاينة، تدخل الذباب الإليكترونى ليثير قضية ديانتها، ويحول الأنظار عن الجريمة، وبدلا من أن نكون يدا واحدة تمسك بالعدو متلبسا بجريمته، غرقنا فى اللغط والهياج، وانغمسنا فى جدل عقيم : هل يجوز أن نحسب شيرين أبو عقلة شهيدة؟! وهل يجوز الترحم عليها؟!
ورغم كل مافى تراثنا الدينى والثقافى والاجتماعى من تسامح وانفتاح وسعة إلا أن روح التعصب غلبتنا، واستطاعت أن تأخذنا إلى مستنقع الشجار المقيت، وتضيع علينا فرصة رائعة لنكون على قدر جلال اللحظة وجلال الشهادة، وسواء أكان الذباب الإليكترونى الذى شتتنا قد فعل ذلك متعمدا، مدفوعا من العدو الذى يعرف كيف يضغط على نقاط ضعفنا ويقتحم ثغراتنا، أو مدفوعا بجهله وتعصبه وعدم إدراكه لمتطلبات ومقاصد المصلحة العامة فى هذه اللحظة من تاريخنا، فإن النتيجة كانت خسرانا مبينا، لم يخفف من وطأته إلا إخواننا المرابطون فى القدس، الذين لم يخوضوا فى هذا الوحل الإليكترونى، فتركوا الشقاق لأهله، وذهبوا يؤدون صلاة الجمعة فى الكنيسة، ويصلون على الشهيدة صلاة الغائب، ويشيعون جنازتها بالآلاف، من جنين إلى القدس.
لعل هذه اللحظة قد نبهتنا إلى حالة اللاوعى التى نعيشها، ومدى احتياجنا إلى عقل جديد وفقه جديد يضعنا على مستوى تحديات المرحلة، وينتشلنا من الفوضى الدينية التى صارت تمزق صفوفنا، هذا الفقه الجديد لن يأتى عن طريق المخابرات الأمريكية وقناة الحرة وتيار إبراهيم عيسى وسعد الهلالى وفاطمة ناعوت وأمثالهم، وإنما يأتى عن طريق الأزهر الشريف وشيخه الجليل وعلمائه الثقات، الذين يسمع لهم الناس ويقتنعون بعلمهم.
شخصيا، لا أدعى قدرة على المساهمة فى هذا الأمر، فلست أهلا لذلك، لكنى فقط أفكر فيه بجدية، وربما كان عندى فيه من أسئلة أكثر مما عندى من إجابات، منها على سبيل المثال :
ــ ألم يكن النبى صلى الله عليه وسلم يعلم أن النجاشى مسيحيا حين نعاه عند موته، ودعا الصحابة إلى صلاة الغائب عليه والاستغفار له؟ ترى ماذا كان يقول النبى وصحابته وهم يصلون على النجاشى ويكبرون أربع تكبيرات؟
ــ لماذا يقاس استغفارنا للمناضلة شيرين وأمثالها وترحمنا عليهم باستغفار سيدنا إبراهيم لأبيه، المنهى عنه فى القرآن الكريم، ولا يقاس باستغفار النبى وصحابته للنجاشى؟ أى القياس أصح؟
ــ ترى كيف كان يتعامل الصحابة والتابعون مع شهداء ( لواء النصارى) الذى ألفه نصارى نجران فى جيش الإسلام على عهد سيدنا عمر مقابل إسقاط الجزية ؟ ولماذا يتم تأويل قاعدة ” فلن يكفروه ” الواردة بشأن جزاء الأمة القائمة من أهل الكتاب فى سورة آل عمران تأويلا ضيقا لايتسع لعفو الله ورحمته؟
ــ فى الآية 8 من سورة الممتحنة يأمرنا ربنا جل شأنه بالبر والقسط مع الذين لم يقاتلونا فى الدين ولم يخرجونا من ديارنا، والبر درجة أعلى من القسط الذى هوالعدل والمعاملة بالمثل، فما بالنا بمن يناضل معنا ويقف على خط النار؟ أليس من البر أن نوقره ونحتسبه شهيدا، نترحم عليه ونترك أمره إلى ربه؟
ــ إذا كان النبى صلى الله عليه وسلم قد نبه إلى أن” من آذى ذميا فقد آذانى”، والذمى هو المواطن فى الدولة الإسلامية بعيدا عن تشويه المصطلح، فهل يجوز إيذاء إخواننا فى الوطن والأمة والجهاد بالإصرارعلى أنهم كفار يدخلون النار؟ أليست هذه أبلغ إساءة يمكن أن تلحق بهم؟ وهل كان الصحابة يجاهرون بوصف أهل الكتاب الذين يعيشون معهم فى المدينة وسائر بلدان الدولة الإسلامية بالكفرة.
ــ لم يقر القرآن الكريم قول المدعين بأن الجنة لن يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى، ووضع القاعدة الذهبية لحساب الجميع : ” ليس بأمانيكم ولا أمانى أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا، ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ” النساء 123و 124، فلماذا نتألى على الله، ونجعل من أنفسنا حراسا على الجنة، ونحكم على إيمان العباد؟ من يعلم إيمان الناس إلا رب الناس؟ لماذا لا نترك ما يخفي لمن يعلم السر وأخفى؟
ــ وإذا كان للإسلام شهداء، وللمسيحية شهداء، ولليهودية شهداء، فلماذا لايكون للوطن شهداء؟ أولئك الذين يضحون بأرواحهم فى سبيل حريته واستقلاله وكرامة أهله، ويتم التعامل مع هؤلاء الشهداء بمرجعية وطنية، وعلى أرضية المواطنة والمساواة، ليس فى الحقوق المادية فحسب وإنما فى الحقوق المعنوية أيضا؟
ــ عندما كان مشايخنا الكبار يزورون جبهة القتال قبل حرب أكتوبر سأل جندى مسيحى الشيخ الغزالى رحمه الله : هل إذا قتلت سأكون شهيدا وأدخل الجنة ؟ فلم يمتعض الشيخ من السؤال، ولم يقل له لا، أنت كافر، كما يقول غلاظ القلوب، وإنما طالب بأن يتم إرسال عدد من القساوسة إلى الجبهة ليقولوا للضباط والجنود المسيحيين ” أنتم شهداء “، ويرفع عن الشيوخ الحرج الدينى، وبهذ المعنى لانتحرج أن نقول لهم ” أنتم شهداء ” على عقيدتهم، كما يقول القساوسة، ولا علاقة للإسلام والمسلمين بالأمر؟
ــ ثم .. إذا كان البعض لايزال يشعر بالحرج فيكفيه أن يقول للمناضلة الفلسطينية ولأمثالها كما يقول المسيحيون: المجد لها فى الملكوت، ولتنعم روحها بالسلام، وبذلك نفك العقدة دون إساءة لأحد .