عندما وقعت جريمة قتل طالبة المنصورة ” نيرة ” على يد زميلها محمد اشتعلت مصر غضبا واستنكارا للجريمة البشعة الصادمة، التى كانت تحمل دلالات مرعبة تشير إلى ما وصلت إليه أحوال مجتمعنا من فوضى واضطراب وتفكك، دفع ثمنها شابان فى مقتبل العمر كانا واعدين، وخرجت دعوات كثيرة تطالب بسرعة محاكمة الجانى وإعدامه ليكون عبرة لأمثاله من المغامرين المستهترين، ويالتوازى مع المحاكمة إجراء دراسة شاملة لأسباب الجريمة وأبعادها حتى نصل إلى التشخيص الصحيح للمرض وعلاجه، حتى لا تتكرر الجريمة .
وللأسف الشديد تكررت الجريمة بعد وقت قصير، وقتلت طالبة الشرقية ” سلمى ” الأسبوع الماضى على يد زميلها بنفس الطريقة تقريبا (طعنات متتالية بالسكين )، ولنفس السبب ( ادعاء الغدر العاطفى)، لكن مصر هذه المرة لم تشتعل غضبا واستنكارا، بل نامت هادئة، وكأن ماحدث كان أمرا عاديا، لم تصدمنا الجريمة الثانية مثل صدمة الجريمة الأولى، مع أن صدمتنا فى الثانية كان يجب أن تكون مضاعفة .
الآن .. نحن أمام ظاهرتين خطيرتين: الأولى تكرار وقوع جريمة القتل انتقاما لما عرف بالغدر العاطفى، من جانب شباب غض متعلم، كان يجب أن تكون مشاعره حساسة وراقية، لايخالطها تفكير إجرامى فى سفك الدم، شباب لايكترث بالنتائج وإن وصلت إلى إعدامه، ولم تزجره صيحات الغضب والاستنكار الشعبى، ولم يؤثر فيه ماقاله القاضى من حيثيات فى حكم قاتل نيرة، أما الظاهرة الثانية فهى استقبال المجتمع لجريمة قتل سلمى بأعصاب هادئة باردة، تشير إلى نوع من التطبيع مع هذا النوع من الجرائم، رغم بشاعته وخطورته .
ولا يكفى فى مواجهة الظاهرتين أن تحال القضية إلى المحكمة، وننتظر كلمة القضاء وحيثياته، والكلمات الزاجرة التى سينطق بها القاضى، فالقضاء يحكم ويفصل ويطبق القانون، لكنه لايعالج الخلل والأمراض التى استشرت فى المجتمع، لذلك لابد أن تستنفر مراكز البحوث الاجتماعية والجنائية، وأن يشمر الباحثون الجادون عن سواعدهم، وهم كثر والحمد لله، لدراسة الظاهرتين من كل الجوانب، وليشرحوا لنا لماذا ظهر هذا النوع الجديد من الجريمة بين فتيان وفتيات فى سن المراهقة، ولماذا هدأت أعصابنا مع وقوع الجريمة الثانية .
سيكون على هؤلاء الباحثين الجادين أن يعملوا بعيدا عن الضجيج الإعلامى ليجيبوا عن الأسئلة العالقة المحيرة التى تتناقلها الألسنة مثل : كيف وصلنا إلى هذا المستوى من العنف المجتمعى؟ وما الأسباب التى تجعل الشباب الذى يعيش مرحلة الطموح العلمى إلى الاستهانة بروحه وأرواح غيره، والتضحية بمستقبله إلى هذا الحد ؟ وما هذا الغدر العاطفى الذى تتهم به الفتيات هذه الأيام ويدفع الجانى إلى القتل ؟ وماذا تفعل الأسرة المصرية حتى لايقع ابنها وابنتها ضحايا لهذا النوع الغريب من الغدر والانتقام الأعمى ؟ ولماذا فشل الخطاب الدينى التقليدى والخطاب الثقافى ” التنويرى ” معا فى مواجهة العنف المجتمعى ؟
من السهل جدا أن يقال إن الإعلام الفوضوى هو السبب فى ضياع الشباب وإبعادهم عن الدين والقيم والأخلاق الرفيعة والمثل العليا حين عمد إلى خلخلة الثوابت، وإسقاط قيمة القدوة فى حياتنا، حتى وصل إلى التشكيك فى الصحابة والقادة التاريخيين لأمتنا، والتقليل من شانهم، ومن السهل جدا أن يقال إن العيب فى التربية والتعليم والمناهج القاصرة المضطربة التى تعيش مرحلة التجريب والتبديل والتغيير من عشرات السنين .
ومن السهل أن يقال إن السبب الرئيسى فى هذه الجرائم وما شابهها يرجع إلى انعدام مسئولية الأسرة عن تربية أبنائها وبناتها، وانصراف الأبوين إلى شئون أخرى، وإهمال دورهما فى التوجيه والمراقبة، ومن السهل أن يقال أيضا إن الخطاب الدينى ” التقليدى ” هو سبب هذا الضياع بعد أن فقد تأثيره، ولم يعد له دور فى إصلاح المجتمع، بل أصبح عبئا على الدعوة الإسلامية الناصعة، خصوصا حين تحول الشيوخ إلى مهرجين بدعوى الاقتراب من الشارع .
لكن هذا الكلام السهل يحتاج إلى دراسات علمية تكاملية، تضع النقاط على الحروف، ثم تجمع الحروف إلى بعضها، لتكتب لنا بها حلولا شاملة ناجعة، وعلينا جميعا أن ننصت لكلمة العلم ونمتثل لها، وإلا فما فائدة مراكز البحوث إذا لم تنهض بمهمتها فى ساعة الخطر، وما العائد على الوطن من الأموال التى تنفق عليها ؟