الإنسانية درجات والعقل درجات وأدنى درجات العقل هو العقل المادى البحت الذى لا يعترف إلا بالواقع المحدود الذى يراه ويعيشه وينكر تماماً ما وراء هذا الواقع الملموس المحسوس . فإن احتكمت فى سلوكك لهذا العقل فأنت مجرد حيوان متطور تستخد طلقة المسدس بدلا من المخالب وتتآمر بالعقول الألكترونية بدلا من الانطلاق وراء غضب عشوائى غير محسوب . ومنزلتك فى كل درجة من هذه الحالات يشهد عليها سلوكك .. فإذا كنت من أهل هذا الإيمان الرفيع فلا بد أن تكون من أهل الإحسان .. تتقن كل عمل يوكل إليك دون نظر إلى مكافأة .. وتعامل أعداءك بالتسامح والنصح وتجاهد الباطل بيدك وقلبك ولسانك ولا تخشى فى الحق لومة لائم وتزجر شهواتك وهى مازالت همساً فى الخاطر وقبل أن تنمو إلى دوافع وأعمال . ولا حقيقة لحال إلا إذا شهد عليه عمل ، ولهذا يقلبك الله بين المواقف بين لحظة وأخرى من لحظة تصحو إلى لحظة تنام وكل لحظة تضعك فى موقف . وكل موقف يتطلب منك اختياراً بين بديلات ، ولا يعفيك من الامتحان ألا تختار .. لأن عدم الاختيار هو فى ذاته نوع من الاختيار .. ومعناه أنك ارتضيت لنفسك ما اختارته لك الظروف أو ما اختاره أبوك أو ما اختارته شلة أصحابك الذين أسلمت نفسك لهم . ويعنى هذا أن الحياة تعريك فى كل لحظة وتكشف حقيقتك وتنزع عنك قشرتك لتخرج مكنونك ومكتومك . والمكر الإلهى هنا هو أن يضعك فى موقف بعد موقف ومشكلة بعد مشكلة .. وكل مشكلة تتطلب حلا .. وكل حل يتطلب اختياراً يكشف عن حقيقتك رغماً عنك مهما حاولت الاستخفاء . وبقدر ما تمتد حياتك يوماً بعد يوم ..بقدر ما تتمزق عن وجهك الأقنعة .. ويظهر ويفتضح أمرك وينتهك سرك . والله يعلم حقيقتك وسرك من البداية .. ولكنك انت لا تعلم ولا تريد أن تعلم .. لأنك مدع .. وكل منا مدع .. كل منا يتصور أنه رجل طيب وأنه مستحق لكل خير ، حتى الجبارون الذين شنقوا وسجنوا وعذبوا شعوبهم تصوروا أنهم مصلحون . كل منا جاء إلى الحياة ومعه دعوى عريضة مزعومة بأنه رجل صالح وطيب . ولهذا اقتضى عدل الله أن يطلعنا على حقائقنا حتى لا تقوم أعذار حينما يبدأ تصنيف الناس فى الآخرة حسب درجاتهم .. وحتى يكون التصنيف على حسب الحقائق وليس على حسب المزاعم والدعاوى . ولهذا خلق الله الدنيا . خلقها لتنكشف الحقائق على ما هى عليه .. ويعرف كل واحد نفسه ويعرف مقدار خيره وشره .. ثم ليعرف الأبرار خالقهم وربهم وليذوقوا رحمته قبل لقائه . ثم خلق الآخرة لتنكشف فيها حقائق الربوبية وعالم الملكوت والجبروت والغيب . والله لا يخلق أى شىء إلا بالحق وللحق ، لأنه سبحانه هو الحق . ( وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق ). فإذا ارتقيت أكثر فإن الاستشعار الروحى للغيب والإحساس الصوفى لما وراء الواقع سوف يغلبان على عقلك المسجون فى زنزانة الماديات ، وسوف تنفتح لك نوافذ من البصيرة والحكمة تضىء الظلمة التى ترين عليك من غواشى الحس وسوف يبدو كرم الخلق كأنه طبعك . ولكن استشعار الغيب لم يرتفع بعد ليصبح يقيناً .. وإنما هو مجرد ترجيح . وغاية ما تبلغ إليه من حال .. أن تعتقد أن هناك ثمة قوة وراء الأشياء .. وأنك تخشى هذه القوة . ولكن ما عدا ذلك غير واضح واهتمامك بالدنيا يغطى على هذا الإحساس .. وأنت تمضى فى حياتك تحاول أن تحقق أقصى النفع ولكنك تتحرى ألا تؤذى أحداً .