لايكاد يمر أسبوع دون أن ندخل فى دوامة اللغط الدينى، بسبب الفتاوى الغريبة والآراء الشاذة التى تثار عبر القنوات الفضائية والفيديوهات والبث المباشر، والتى يتورط فيها ـ للأسف ـ علماء ودعاة درجوا على أن يحدثوا بلبلة فى عقول الناس، ويجعلونا فى قلق دائم وغضب واستنفار، ولم تعد تشغلهم فكرة الاستقرار الروحى والعقلى والدينى لأبناء أمتهم.
وخلال الأسبوع الماضى صدمتنا آراء نسبت للشيخ يونس مخيون، القيادى فى حزب النور، حول بطولة كأس العالم، وفتوى للدكتور سعد الدين الهلالى بشأن صلاة الفجر، ثم أضيف إليهما بعض من هرطقات إبراهيم عيسى حول الخمور فى المونديال، وكلها قضايا لاطائل من ورائها إلا الإثارة، وشغل الناس بأمور خلافية، ضررها أكثر من نفعها، لكنها فى النهاية تلعب على وتر التشكيك الدائم فى ثوابت الدين، وخلق حالة من التوتر والقلق الدينى فى المجتمع.
ففى الوقت الذى يسمع الناس أخبارا طيبة عما يحدث فى المونديال بشأن التعريف بالإسلام والتقاليد الإسلامية، والحفاظ على الهوية العربية أمام القادمين من مشارق الأرض ومغاربها، فاجأنا الشيخ مخيون بالهجوم على البطولة، والتحذير من لعبة كرة القدم، وإطلاق فتاوى أقل ما يقال فيها أنها مزايدات فارغة فى توقيت خاطئ، وبالطبع تخطفت وسائل الإعلام العالمية كلام الشيخ، وقدمته على أنه الوجه الآخر المتعصب للإسلام، الذى يناقض ما يقدم فى المونديال.
قال الشيخ مخيون فى بث مباشر على ” فيسبوك” إن لعبة كرة القدم ومتابعة المونديال فيها إهدار للوقت والعمر والسنين، وقلب للموازين والمفاهيم، وفيها صرف للناس عما ينفعهم فى الدارين”، وأضاف متسائلا : ” ماهى الفائدة التى تعود على المشاهد أو المتابع من مشاهدة مباريات كرة القدم ؟! “، ثم هاجم النجم الأرجنتينى ليونيل ميسي، وحذر من اتخاذ اللاعبين قدوة قائلا : ” قد يكون ذلك اللاعب عدوا للدين، مثل ميسي”.
و قد أثارت هذه الفتوى جدلا واسعا عبر مواقع التواصل على شبكة الإنترنت بين مؤيد ومعارض، هناك من هاجموا الشيخ، وهناك من دافعوا عنه، مما حدا بدار الإفتاء إلى التدخل لتصحيح الوضع على لسان أمينها خالد عمران، الذى استضافته إحدى القنوات الفضائية ليؤكد أن ” مشاهدة مباريات كأس العالم مباحة ومشروعة، والكرة شأن رياضي يقوى الجسد والعقل، ومتابعة كرة القدم غير محرمة، بل هى رياضة مفيدة تسهم فى التعرف على الثقافات الأخرى، ولا يحق لأى شخص الحكم على الآخرين والحط من شأنهم، مثلما وصف مخيون اللاعبين، ومن أراد النجاح فى أى مجال من مجالات الحياة فعليه النظر إلى قصص الناجحين، وهذا لا يؤثر على تدينهم”.
وكان د. ياسر برهامى نائب رئيس الجماعة السلفية بالإسكندرية قد سخر فى وقت سابق من الحديث عن الدعوة للإسلام فى كأس العالم ومنع الخمورقائلا ” واسعة شوية “، وأضاف فى فيديو على اليوتيوب: ” إن بطولة المونديال يوجد بها منكرات، أخطرها إلهاء العالم والتعصب والنزاعات الجاهلية، وكذلك إحياء محبة الكفار لأنهم يلعبون لعبة حلوة “.
وقد كان طبيعيا أن تلتقط وسائل الإعلام العالمية هذه التصريحات الغريبة لتحدث بها ضجة مطلوبة، وتقدمها دليلا على أن الخطاب السلفى مغرق فى الانغلاق والرجعية، والتضييق على الناس، ويعطى صورة سلبية عن الإسلام، ويسيرعكس المرجعية الدينية الوطنية، المتمثلة فى الأزهر الشريف.
ولم يدع إبراهيم عيسى فرصة المونديال تمر دون أن يقذفنا بواحدة من هرطقاته التنويرية، حيث قال: ” إن منع الأجانب من شرب الخمر فى المونديال فيه مخالفة للشريعة، وفتاوى المذاهب كلها تقول إن من حق أهل الكتاب صناعة الخمر والبيع والشراء وشرب الخمور فى الدول الإسلامية، والخليفة عمر بن الخطاب كان يأخذ ضرائب على الخمور، والشريعة الإسلامبة تضمن لكل أجنبى على أرض الدوحة الآن أن يشرب خمرا، وما يحدث قى قطر لاعلاقة له بالشريعة، بينما يدعون أنهم متمسكون بالإسلام والقيم”.
والكلام بهذا الشكل فيه تدليس وتلبيس، وفيه مزايدات فارغة لاتقل سوءا عن مزايدات الشيخ مخيون، وإن كانت مضادة لها فى الاتجاه، فتحريم الخمر ثابت بالقرآن والسنة، وما قاله غير دقيق، لأن الأمر واضح من البداية، فقد منعت قطر الخمور فى الملاعب ومحيطها، مثلما فعلت فرنسا وإسبانيا من قبل لكبح جماح عنف المشجعين، ومنعت السكر فى الشوارع، لكنها لم تفتش عن الخمور، من أرادها فليشربها فى حجراته، ومع ذلك اتهمت بـ ” أسلمة المونديال ” واختطافه.
ثم يأتى على رأس المغردين خارج السرب الدكتور سعد الدين الهلالى، المغرم بالفتاوى والآراء الشاذة، ووضع الناس فى شك وقلق وجدل، وقد ذكر هذه المرة أن من يصلى الفجر كمن يصلى الصبح بعد طلوع الشمس، مستشهدا بحديث النبى لأحد الصحابة حينما اشتكته زوجته بأنه ينام عن صلاة الفجر فقال صلى الله عليه وسلم: ” إذا استيقظت فصل “.
وقد استلزم اللغط الذى أحدثه د. الهلالى أن يخرج علماء أزهريون ليردوا على هذا التعميم الخاطئ، ويبينونه للناس على النحو الذى أراده الله ورسوله، فالمسلم إذا نام عن صلاة الفجر ثم استيقظ صلى الصبح، وحصل على ثوابه، لكن هذا الأمر يظل مرتبطا بعذر، وصلاة الفجر فى وقتها أوجب، وهى الأصل المفروض، وفكرة المساواة الكاملة بين الفجر والصبح محاولة خبيثة لإسقاط صلاة الفجر فى وقتها، أو على الأقل الاستهانة بها، وما كان ينبغى أن يصدر هذا الأمر عن عالم أزهرى.