من اعظم ماكتب فى تشريح ظاهرة الامام الشعراوى وسر الوصول لتلك الشعبية الطاغية
كان سطوعُ نجم الشيخ الشعراوي ظاهرةٌ لافتة لاتزال تسترعي الانتباه حتى اليوم. فعلى الرغم من تصاعد التيار السلفي فى مصر وغيرها منذ
السبعينات مع تضخم عوائد البترول و تنامى دور الخليج إقليما وعالميا, وعلى الرغم من سطوة جيوب اليسار الذين يقدمون أنفسهم بصفتهم النخبة الفكرية والثقافية استطاع أزهرىٌ صوفيٌ فى عنفوان المد السلفي واحتدام النشاط اليساري أن يتسيد ساحة الدعوة الدينية فى مصر تقريبا ؟, فكيف استحوذ على قلوب الجماهير بشكل لم يتح لغيره طوال الستين عاما الاخيرة؟, نقارب معالم الشيخ الظاهرة على نحو راصد كما يلي
أولا .. اختار الشيخ تفسير القرآن مجالا لنشاطه وهو مجال يختلف عن الوعظ التقليدى الذى يسم خطب الجمعة ومواعظ المساجد ودروس الدعاة التى انتشرت عبر الكاسيت بدءا من السبعينيات. اتسم الخطاب الدعوى على اختلاف تياراته بالنبرة الخطابية الزاعقة, وتخصيص الخطبة أو الدرس لموضوع واحد يتمحور حوله الحديث بشكل تعليمى فوقى, فيما انفرد الشعراوي بمجال لم يكن يُعتقد أن يحوز شعبية وهو مجال التفسير لأنه ظل حكرا على المتخصصين الذين يتلقونه بشكل دراسى ممنهج؛ ولكن الشيخ ابتكر طريقته المشتهرة فى التفسير التى كان لها أكبر الأثر فى شعبيته والتى تتميز بما يلى
1- مزجه العامية المصرية بالفصحى مع تغليب دور العامية فى الخطاب
2- استفادته من مجال تخصصه الاصلى وهو اللغة والبلاغة
3- تتنوع الموضوعات لزوما تبعا للآيات ولذا لا تقتصر الحلقة على موضوع واحد
4- ملكات التواصل عند الشيخ وأهمها الاداء الصوتى و تنويعه, ولغة الجسد المعبرة, والقدرة على ضرب الأمثلة القريبة من ذهن المتلقى الشعبى, وغير ذلك
5- لهجة الشيخ الريفية التى لم يغيرها والتى اختصرت المسافات بينه و بين جماهير كبيرة
6- تزيا الشيخ بزى أقرب إلى الزى المصرى المعتاد بعيدا عن الكاكولا الازهرية (زي كشك مثلا) , والدشداشة الخليجية (زي حسان مثلا) .. فلبس الجلباب البلدى ذا الكم الواسع حينا, والاسكندرانى ذا الأساور أحيانا, وطاقية عادية قريبة من طواقى المصريين فى الأرياف, وإن كان ذكر أنه أخذها من الجزائريين إبان فترة عمله هناك
ثانيا …. شاعت صورة الشيخ الشعراوي عازفا عن العمل بالسياسة, وشاعت قصص استقالته من منصب وزير الاوقاف الذى قضى فيه حوالى عامين كما يشاع إنه رفض تقلد مشيخة الأزهر, ولما لم يكن خطاب الشيخ وعظيا مباشرا كما بينا فقد أتاح له ذلك التحلل من التقاطع مع الأنظمة الحاكمة المتوالية فى أغلب الاحيان, وهى الصورة التى يطلبها الوعى الشعبى فى قادته الدينيين فلا ثقة لدى الجماعة الشعبية برجل دين يتحدث باسم السلطة ؛ أو حتى بمباركة منها, لكن – وفى ذات الوقت – كان الخطاب العام للشيخ غير مرفوض من الأنظمة لأنه بعيد عما يهدد الكراسى, ولا يكرس لحالة ثورية ضد المظالم والفساد, وقد أدى الرضا الحكومى عن الشيخ إلى فتح أبواب الاعلام أمامه على مصاريعها كنوع من البرهنة على عدم عداء النظم للدين (مادام الدين بعيدا عما يتعلق بالعروش) وترويج للون الذى لا ضرر منه عليها, بمعنى أن السلطة تركت مساحة كبيرة للشيخ تقربا للجماهير وليس دعما لتيار الشيخ نفسه.
ثالثا .. طعم الشيخ دروسه الكثيرة بروح صوفية تلاقت وذائقة الملايين ولم تتضارب فى معظم الاحيان مع خطاب التيارات الدينية الاخرى لمهارة الشيخ فى تقديم رؤاه الصوفية فى ثوب شرعى قدر الإمكان تحسبا لما يمكن أن يلاقيه من عنت السلفية المتصاعدة , وقد لقي الشيخ عزوفا سلفيا واسعا ولكنه عزوف مستتر ونفور خفي فلم يقدر السلفيون على الإيغال في تهجمهم على الشيخ حفاظا على صورتهم عند الجماهير.
.
رابعا .. تكرست لدى العامة صورة الشيخ حاملا القرآن في يده طيلة حلقات حديثه ويتابع النظر فيه ليقرأ الآية ثم يعلق عليها فكأنه في التلقي الشعبي ترجمان لكتاب الله؛ بخلاف الواعظ الذي يلقي خطبته المعدة سلفا وفق ترتيبه واختياره..
خامسا .. مثل الشيخ الشعراوي امتدادا طبيعيا للمدرسة الأشعرية الكبرى التي تأسست راسخة كنتاج فكري قديم من أتون الصراع بين تيارات الإسلام الكبرى, وتدعمت على أصعدة شتى وسرعان ما مثلت ما عرف بأهل السنة والجماعة, وهي المدرسة التي تألقت عبر المدارس النظامية بريادة حجة الإسلام أبي حامد الغزالي وهيمنت على عموم بلدان العالم الإسلامي وتجلت في معاقل الإسلام الحديثة الكبرى كالأزهر والزيتونة والقرويين وغير ذلك , وهي النسخة الإسلامية الأعرق والأكثر قبولا بين جماهير الأمة الإسلامية على اختلاف مواضعها من الهند حتى مراكش وعلى اختلاف القرون عبر ألف عام تقريبا .
وشيئا فشيئا تجمعت صورة الشيخ الأسطورية من مربعات أصغر منها ما يمثل صورة مقرب البعيد؛ وأى تقريب أكثر من فتح الآيات القرآنية أمام الفهم الشعبى الذى لطالما طرب لها متلوة على ألسنة محمد رفعت ومصطفى اسماعيل وعبد الباسط وغيرهم؛ لكنه كان طربا موسيقيا أما الشيخ فقد استطاع انتزاع الطرب من ذات الجمهور على ذات الآيات ولكنه لم يكن طربا موسيقيا هذه المرة. وإنما هو طرب مركب تختلط فيه موسيقى اللغة بموسيقى الآيات وتمتزج فيه براعة الصور بجمال المعاني عبر واسطة مرهفة الملكات هي الشيخ نفسه, وفى مربع آخر صغير من الصورة نجد الشيخ الذى يزهد الدنيا ويترفع عن المناصب وهى صورة قرت فى أذهان مريديه بشكل أو بآخر, وفى مربع فارق نجد صورة الشيخ القادر على الحديث فى شتى المناحى وهى صورة كان يعتنى الشيخ نفسه بتكريسها كثيرا, فكان يسوق في حديثة نبذات عن تركيب الذرة وخصوبة التربة الزراعية وخواص المواد الفيزيائية ممتزجة بشعر عربي قديم وأمثال شعبية معاصرة في حديث يضج بحيوية وبساطة, وفى مربع آخر نجد صورة للشيخ بالغة الأهمية وهى صورة المصرى الذى يرتدى ثوب المصرى و يتحدث بلهجته و يومىء بإشاراته ويتماهى مع طريقته فى الرؤية والموازنة فكان تلقائيا أن رفعت صوره فى المحلات التجارية والسرادقات وعلى زجاج السيارات .. إنه الشعب يصطنع قديسه على عينه فيرفع صوره أيقونات إجلال وبركة على الجدران بعدما سبق وطبعها فى القلوب.