فى مطلع الشهر الجارى ـ أغسطس 2023 ـ صدر عن دار النفائس اللبنانية كتاب ” الإصلاح الدينى وتغريب الإسلام ” للأديب والمفكر المغربى الدكتور إدريس الكنبورى، وهو صديق عزيز واسع الثقافة، أتابعه منذ عام أو أكثر، وأجد فى كتاباته رصانة واستقامة وعقلانية، فلا هو بالمتهور الغشوم فى تناوله لقضايا الفكر الإسلامى، ولا هو بالمتخاذل الكتوم، الذى يؤثر السلامة على الجهر بالحق، وقد صدرت له من قبل كتب عديدة منها : ” النص والحاوى “، و” الأسس الدينية والفلسفية لحرية المعتقد فى الفكر الغربى الحديث”، و” سلفي فرنسي فى المغرب”، و” الإسلاميون بين الدين والسلطة”، بالإضافة إلى 3 روايات: ” سنموت فى أورشليم”، و” زمن الخوف “، و” الكافرون “.
وفى هذا الكتاب الجديد ” الإصلاح الدينى وتغريب الإسلام ” يحاول الدكتور الكنبورى تقديم قراءة لمسارات الإصلاح الدينى فى العالم العربى خلال بدايات القرن العشرين، وعلاقة الإصلاح الدينى بالواقع العربى والإسلامى، والسياسات الغربية ومحاولات تطويع الإسلام، وكيف وصل مشروع الإصلاح إلى صورة رديئة فى السنوات الأخيرة مع نشأة تيار نقد التراث، وظهور حالة من الفوضى أدت إلى مواجهة مستمرة بين من يدعون إلى إصلاح حقيقى يربط الأمة الإسلامية بجذورها وهويتها، وفق رؤية عصرية تستفيد من التراث فى إطار مشروع حضارى متكامل، ومن يعملون على قطع الصلة مع التراث، ومفارقته بالكامل، بل إدانته وإعلان البراءة منه، والسير على النهج الغربى فى طريق النهضة، وإسقاط أية خصوصية إسلامية.
يقع الكتاب فى عشرة فصول، تعرض فيها المؤلف لعدد من القضايا الراهنة المطروحة فى سياق النقاش حول الإصلاح الدينى فى الإسلام، وارتباط تلك القضايا بالتاريخ العربى والإسلامى الحديث منذ انهيار الخلافة العثمانية، ودخول الاستعمار الغربى، ونشأة الاستشراق الأوروبى.
ومن الصفحات الأولى يؤكد الدكتور الكنبورى أن مشروع الإصلاح الدينى فى الإسلام من أقدم المشاريع التى طرحت فى العصر الحديث، وأنه ليس جديدا كما قد يوحى النقاش الجارى اليوم، إذ يعود إلى النصف الثانى من القرن التاسع عشر، بل إن عملية الإصلاح والتجديد من صلب الإسلام، وليست غريبة عنه، خلافا للديانات الأخرى، لأن اعتراف القرآن الكريم والسنة النبوية بالاجتهاد فى الفقه والشريعة أكبر دليل على أن الشريعة الإسلامية تخضع للتجديد المستمر، حتى تكون مواكبة لاحتياجات الناس فى كل عصر، فالإصلاح ـ كما يقول الكاتب ـ جزء من ” بنية النص الدينى” فى الإسلام، على عكس ما يتهم به من جمود وعدم تطور.
ويرى المؤلف أن الانتكاسة التى حدثت لمشروع الإصلاح الدينى قبل قرن من الزمن تعود إلى عوامل عديدة، من بينها الاستبداد السياسى، والهيمنة الغربية، والحملات الاستعمارية، ويقدم تفسيرا جديدا لهذه الانتكاسة، مفاده أن التيار العلمانى فى عالمنا العربى، الذى كان يتشكل بصفة خاصة من المثقفين المسيحيين العرب، لعب دورا أساسيا فى محاربة مشروع الإصلاح الدينى الإسلامى بتحالفه مع الغرب، حيث كانت هناك أطروحتان متقابلتان؛ أطروحة المصلحين المسلمين، وأطروحة المثقفين المسيحيين العلمانيين، التي كانت تنادي بالارتباط مع الغرب، ورفض الدين كهوية للمجتمعات العربية، وهو ما أدى إلى نشأة القومية العربية التي تزعم المسيحيون الشوام الدعوة إليها في البداية، مما تسبب في فشل مشروع الإصلاح الديني.
وفي مناقشة العلاقة بين الإصلاح في الإسلام والإصلاح “البروتستانتي” في المسيحية، يؤكد د. الكنبوري أن “البروتستانتية” لم تكن حركة إصلاحية داخل المسيحية، بل كانت فرقة مسيحية جديدة من بين فرق متعددة ظهرت في التاريخ، وأنها لم تأت بشيء جديد يخالف “الكاثوليكية”، بل كانت صورة معدلة عنها، مقدما أمثلة على هذا التقارب بين الطائفتين، كما كشف أن المبادئ التي نادت بها “البروتستانتية” هي نفسها المبادئ التي دعا إليها الإسلام، موضحا جوانب تأثرها بالإسلام، وتعرف زعيمها مارتن لوثر على القرآن.
ويشير الكاتب إلى أن مشروع الإصلاح الديني قبل قرن كان مشروعا شموليا، يربط بين الإصلاح الديني والإصلاح السياسي، بينما خطاب الإصلاح الديني الحالى يفصل بين الإصلاحين، لأن هذا الخطاب لم ينشأ كحالة داخلية، كما كان الأمر من قبل، بل نشأ مع رغبة الغرب في تطبيع الإسلام والمسلمين مع النظام العالمي وشبكة القيم الغربية، ولذلك ينبهنا الكاتب إلى أهمية إحياء أفكار الجيل الأول للمصلحين، التي لم تستنفد أغراضها بعد، ليصبح الإصلاح الديني المنشود إصلاحا شاملا، للدين والدولة معا.
ويتعرض المؤلف لحالة الاضطراب التي تطبع خطاب الإصلاح الديني اليوم، وظاهرة تحريف مفهوم الإصلاح في الإسلام، بحيث تحول الأمر لدى بعض دعاة الإصلاح إلى التشكيك في التاريخ الإسلامي، وإحداث القطيعة مع مشاريع الإصلاح السابقة، التي حمل لواءها عدد كبير من المصلحين في مصر ولبنان والمغرب، لكنها دفنت، أو شوهت صورتها لدى الأجيال الجديدة، بحيث صار الإصلاح الديني اليوم يبدو وكأنه بداية من الصفر، لا آباء له، وهذا غير صحيح.
ويتطرق الفصل الأخير إلى علاقة خطاب الإصلاح الدينى بالمشروع الأمريكي والغربي عموما، من خلال التقارير الصادرة عن بعض المؤسسات الأمريكية المعروفة، مثل مؤسسة “راند” الأمريكية. ثم يضع الكاتب رؤية جديدة للإصلاح الديني في الإسلام، حيث يقترح النظر إلي هذا الإصلاح باعتباره مشروعًا متكاملًا مترابط الحلقات، فالخطاب الرائج حاليا حول الإصلاح الديني في العالم العربي يركز على ضرورة التقارب مع الغرب، على حساب ركائز الخصوصية الإسلامية، ويسعى إلى إرضاء أطراف أخرى ترى في الإسلام تحديًا، بينما الإصلاح المنشود يرى في الإسلام شريكا في بناء الحضارة الإنسانية اليوم، بصفته جزءا من المشترك الإنساني، وهو إصلاح يقنع الأطراف الأخرى بأن المسلمين ليسوا خصوما لأحد، بل أصحاب قضية ووجهة نظر في النظام العالمي.