لاتواجه المقاومة الفلسطينية سلطة الاحتلال الإسرائيلى الغاشم فحسب، وإنما تواجه فى الواقع أمريكا بكل ما أوتيت من جبروت، وحلفاء أمريكا الغربيين، أي أن هذه المقاومة الفقيرة المحاصرة تواجه أكثر من نصف العالم، النصف الأعتى والأشد بأسا، وهي لاتواجههم فقط فى ميدان الحرب، ولكن أيضا فى الساحة الإعلامية الدولية، وتعلم أن عدوها يمتلك أوسع القنوات انتشارا، وأكثرها تأثيرا، مثلما يمتلك أقوى وأحدث أسلحة القتال، ولديه خبرات طاغية فى فنون الإقناع والتضليل، ومع كل ذلك مازالت صامدة متحدية، لاتعتمد إلا على الله وإرادة شعبها الصلبة.
ومما يؤسف له أن الألة الإعلامية الغربية استطاعت أن تشد إليها قطاعا من المضللين عندنا، صاروا يتبنون ادعاءاتها ووجهة نظرها، ويرددون مفرداتها ومصطلحاتها، رغم ما يشاهدونه من وقائع على الأرض، وما يعرفونه من حقائق تنطق بها كتب التاريخ، ومما يؤسف له أكثر أن هذا القطاع يضم سياسيين وإعلاميين ومثقفين ورجال دين، ما يجعل خطرهم شديدا على تماسك جبهتنا الداخلية.
ولا يشعر هؤلاء بأدنى حرج وهم يهاجمون المقاومة، ويتحدثون اللغة التى يتحدث بها الإعلام الإسرائيلى والإعلام الغربى، ويزايدون على أهل غزة، أملا فى أن ينقلبوا على المقاومة، بينما هناك أعداد متزايدة من المواطنين العاديين فى الغرب، يتظاهرون فى الشوارع والميادبن تأييدا للمقاومة وللحق الفلسطينى.
ويبدو أننا ـ أمام هذا الإصرار من المضللين عندنا على تبنى الرواية الإسرائيلية ـ أصبحنا فى حاجة إلى التذكير بعدالة القضية التى من أجلها يجاهد المجاهدون، وإعادة تعريف المصطلحات التى صارت تستخدم بعيدا عن دلالاتها، وذلك حتى يسترد العقل العربي والإسلامى وعيه، وحتى تستيقظ الضمائر التى تغط فى سبات عميق، لا يكفيها أنها تخاذلت عن نصرة الحق، بل تعمل على تثبيط الهمم، وإشاعة اليأس والإحباط.
وأول المصطلحات التى يجب إعادة تعريفها مصطلح “الاحتلال” الذى هو مفتاح القضية، والذى يعنى بكل بساطة الاستيلاء على أرض الغير ومقدساته بالقوة، وليس هناك على وجه الأرض من ينكر أن العصابات الصهيونية قد احتلت فلسطين على مراحل بقوة السلاح، ومازالت تتوسع فى الاحتلال، وتطرد أصحاب الأرض من أرضهم وبيوتهم ومزارعهم، وتخطط لهدم مقدساتهم، وتأتى باليهود المهجرين من الشرق والغرب ليحلوا محلهم، فى أوضح صورة للاستعمار الاستيطانى عرفتها البشرية.
وما دام هناك “احتلال” فهناك ” مقاومة “، هذه متلازمة بديهية مشروعة، أقرتها الأديان والقوانين الدولية، وأعطت لأصحاب الأرض الحق فى أن يحاربوا المحتل حسب قدرتهم، وبالطريقة التى يرونها، مهما كلفهم ذلك من أثمان باهظة، ولو لم يفعلوا لأصبحوا مفرطين فى حق أوطانهم، ولوصمهم التاريخ بالخزي والعار، وكثيرا ما كنا نسخر من المنظمات التى ترفع شعارات تحرير فلسطبن دون أن تطلق رصاصة على العدو، وكنا نطلق عليهم “المناضلون من وراء الميكروفونات”، لأن النضال الحق هو ” يقاتلون فيقتلون ويقتلون”.
وفى حين كانت المقاومة فى حرب غزة تستهدف المقاتل الإسرائيلى بدبابته ومدرعته، كانت طائرات العدو وصواريخه تستهدف العمارات السكنية والمستشفيات والمدارس، وهى مواقع محرمة فى الحروب، حتى لو احتمى فيها المسلحون، لكن العدو أرادها مذبحة جماعية، وقد كانت بالفعل أسوأ جريمة حرب تابعها العالم على الهواء مباشرة.
أما الخلط بين مصطلح “المقاومة” ومصطلح “الإرهاب” فهو من أعمال المحتل المعروفة تاريخيا، كل محتل غاصب يتهم المقاومين له بالإرهاب، مع مابين المصطلحين من تباين، فالإرهاب يعنى رفع السلاح فى وجه السلطة الشرعية، والاحتلال ليس سلطة شرعية، ولم يمنحه القانون الدولى حصانة من أي نوع، بل حرمه حتى من حق الدفاع عن النفس، واعتبر كل مؤسساته وأفراده أهدافا عسكرية.
ومن هذا المنطلق فإن “المستوطنات” ليست مدنا وقرى طبيعية محصنة وفق القانون الدولى، وكثير من دول العالم، بما فيها أمريكا، لا تعترف بشرعية المستوطنات، وترفض شراء منتجاتها، لأنها أقيمت على أرض منهوبة، وتم جلب المغامرين المسلحين من يهود الشرق والغرب ليسكنوها، وليجعلوا منها أذرعا للتمدد السرطاني الهادئ والبطيء على ما يستطيعون سرقته من الأرض، وقد صار لهؤلاء المستوطنين دور عسكري مشهود فى الجرائم التى ترتكب كل يوم ضد الشعب الأعزل.
ويستخدم الإسرائيليون مصطلح “السلام” ومصطلح “التفاوض” للتمويه وتمرير الوقت، فالسلام عندهم لا يعنى سلام الجميع، وإنما هو سلام خاص بهم وحدهم، وعلى مقاسهم، ليس مهما أن يكون عادلا أو شاملا، وإنما المهم أن يعمل الجميع من أجل سلامهم، ولضمان ألا يلقى عليهم حجر، بينما هم يقتلون المواطنين الفلسطينيين، ويصادرون أراضيهم وبيوتهم ويهينون مقدساتهم، ثم يدعونهم إلى مفاوضات سلام عبثية، ليس فيها غير الابتسامات والوعود الكاذبة، التى سرعان ما تنسى قبل أن يجف حبرها، وسرعان ما يتنصل منها الوسيط غير النزيه.
لقد تحولت المفاوضات مع الإسرائيليين المهووسين بغرور القوة وبالدعم الأمريكى إلى مهزلة حقيقية، ولم يعد أحد يستدعى هذا اللفظ المعيب “المفاوضات” إلا للتغطية على عجزه وتخاذله، وصرف الأنظار عن بطولات المقاومة، التى آمنت بما آمنا به وتربينا عليه، وحررنا به أرضنا، أن “السيف أصدق إنباء من الكتب”، و”ما أخذ بالقوة لايسترد بغير القوة، و”للحرية الحمراء باب، بكل يد مضرجة يدق”.
وحتى مصطلح “حل الدولتين” جعلته إسرائيل شعارا أجوف، خاليا من المضمون، فقد رفضت المبادرة العربية منذ 21 عاما، وضمت إليها الضفة والجولان، ونقلت عدة سفارات أجنبية إلى القدس المحتلة بعد أن أعلنتها عاصمتها الموحدة الأبدية، فماذا بقي ليتفاوض عليه الفلسطينيون من أجل ” حل الدولتين” ؟!
لقد دفعت المقاومة، ودفع أهل غزة، ثمنا مؤلما جدا، لكنهم غيروا موازين القوة، وغيروا العالم، ووضعوا قضيتهم على رأس جدول أعماله، بعد أن ظن العدو أنه نجح فى طى صفحتها، وانتهى أمرها، وهذا والله نصر لو تعلمون عظيم.