يبدو أن العالم يعيش الآن الحقبة الذهبية للكذب في السياسة الدولية.. المرء في حالة ذهول من طفح الكيل من الكذب الذي يملأ الساحة العالمية أكبر قوة أو القطب الأكبر يكذب ويقود توابعه الكبار ايضا إلى الكذب بلا أدنى خجل أو حساسية ويطالبون العالم أن يصدق كذبهم ويسير وراء حملات التضليل الممنهجة لطمس الحقيقة لتصفية القضية الفلسطينية وتحقيق أهدافهم الشيطانية والمريبة ولا يهم قانون دولي أو حقوق انسان أو رحمة إنسانية أو مراعاة لأي اعتبارات مقدسة أو حتى عرفية أخلاقية إنسانية على اي مستوى!
طوفان الأقصى والحرب على غزة الشاهد الأكبر على تصدع الحقيقة ومحاولات النيل منها وطمسها ومساواتها بالباطل وحتى رفعه فوقها بكل ما أوتوا من قوة وقدرة على الكذب والتلفيق والخداع وتزييف الحقائق وتزيين الباطل..
انطلقت الحرب على قواعد كبرى من الكذب والافك وتم التركيز على استهداف كل العقول لتركب موجة الكذب وتعلن الولاء التام للكذب والكذابين مهما كان الثمن وبأي طريقة..
المفارقة العجيبة أنهم حاولوا أن يجعلوا الكذب بداية تاريخ جديد تنطلق منه البشرية كلها لا تعرف شيئا عما قبله..مع الكذبات الجديدة تبدأ عجلة التاريخ في الدوران ويتم ضبط بوصلة الأحداث عليها ولتذهب كل الحقائق واصحابها إلى الجحيم من اجل عيون الصهاينة!
تصدع الحقيقة هو المنهج المعتمد والإستراتيجية الكبرى التى يرتكز عليها الغرب مساندا لامريكا وإسرائيل في إدارة الصراع وإطالة أمد حرب الإبادة والتطهير العرقي وبكل الأسلحة حتى ولو كانت محرمة دولياً..
الاستراتيجية المعتمدة تقوم على أساس لا تسمع إلا الكذبة وكل ما يؤيدها ولا تعطي بألا لاي نقد مهما كان مصدره لاتستمع لاي صراخ أو عويل أو نداءات استغاثة فلا وقت للانسانية وما شابهها.. فلا مشكلة على الإطلاق أن يباد شعب وتنتهك حرماته وتدنس مقدساته وتنهب أرضه ويتم تهجيره منها قسرا ومن يرفض أو يحتج فقد جنى على نفسه وليتحمل القصف جوا وبرا وبحرا بلا هوادة..
كل أشكال الخطاب الان خاصة الأعلى صوتا تقود إلى تصدع الحقيقة وليس لها من هدف الا ضياع الحقيقة وطمس معالمها.
الخطاب الأمريكي وبالطبع معه الصهيوني افضل نموذج على تصدع الحقيقة لأنهما في حالة من التماهي والانصهار لم تعرفها من قبل حالات التوحد والانصهار..فهو خطاب مريب مرتبك ومحير لا تعرف ماذا يريدون بالضبط ..الشيء ونقيضه في وقت واحد..دوران حول الفكرة..اعتراف ثم إنكار..احاديث وتصريحات متباينة ومتضاربة حتى بين مسئولين كبار..حالة مزرية لا يمكن حتى وصفها بأنها من قبيل توزيع ادوار..كبار المسؤولين لا يخجلون من الكذب ولا حتى عندما يكتشف العالم كذبهم لا يعتذرون ولا يتوارون خجلا بل يتطاولون ويزايدون ويمعنون في الأكاذيب والضلالات الكبرى!
يقولون ما لايفعلون ولايفون بما يوعدون..متقلبون مرتبكون خائنون لم يعد المر يعرف هل هم فعلا اصدقاء أو حلفاء او شركاء استراتيجيون كما يقولون ام مراوغون..الحقيقة معهم حائرة والتضليل سيد الموقف والتشويه هدف حقيقي والخداع هو الغاية الكبرى..
الاصرار على تنفيذ السياسات والتوجهات التي تقود إلى تصدع الحقيقة ليس مسألة طارئة أو مستحدثة بل هو نهج قديم في السياسة الأمريكية.. وقدمت مؤسسة راند التابعة للبنتاجون دراسة مهمة تحت هذا العنوان :”تصدع الحقيقة..تهديد لصناعة السياسات والديموقراطية”.
ركزت على أسباب تصدع الحقيقة وعواقبها وتأثيرها على الديمقراطية والخطاب السياسي والمدني في الولايات المتحدة الأمريكية ويرى عدد متزايد من الأمريكيين أن الإدارة الأمريكية والإعلام والاوساط الاكاديمية محل شك جديد وتؤدي إلى بث التفرقة بين صناع السياسات والافراد على حد سواء..وحذرت الدراسة من أن تصدع الحقيقة تهديد قاتل للديموقراطية الأمريكية..
اشارت الى ان عواقب تصدّع الحقيقة تظهر في الكثير من الجوانب وأبرزها: تراجع الخطاب المدني؛ الجمود السياسي؛ عزل الأفراد من المؤسسات المدنية والسياسية وفصلهم؛ سياسة الشك على المستوى الوطني (عدم اليقين).
يخلص المؤلفان واضعا الدراسة إلى أن تناول سياسة ما بعد الحقيقة والتلاعب بها واستخدام الحقيقة لخدمة الدعاية السياسية واحدة من الموضوعات التي زاد الاهتمام بها بعد صعود الشعبوية والحملة المضادة للإعلام الأميركي المضاد للرئيس السابق دونالد ترامب والذي وصف بأنه يقتات على الأخبار الكاذبة. وهي الأخبار التي تعتمد على سياسة ما بعد الحقيقة واستغلال آلياتها في تطويرٍ للبروبجاندا القديمة.
الحقائق المتصدعة هي الصورة المصاحبة لتصريحات كل مسئولي الإدارة الأمريكية من أعلى السلم حتى أسفله.. الشيء ونقيضه في وقت واحد مع السلام وعدم وقف إطلاق النار..مع رفض التهجير للفلسطينيين وفي الوقت نفسه إطلاق العنان لنتنياهو في القتل وتنفيذ الإبادة والدفع نحو التهجير..والسماح للمستوطنين بطرد اهالى الضفة من منازلهم ومزارعم والاستيلاء عليها عنوة وبقوة السلاح وفي وضح النهار.. مع المطالبة بلجم المستوطنين وفي الوقت نفسه تزويدهم بالسلاح الشخصي وتوفير حماية لهم من جيش الاحتلال والشرطة ومساعدتهم على ارتكاب جرائمهم ضد الفلسطينين..
من المضحكات المبكيات انهم يقولون إن الإدارة تزود نتنياهو بنصائح لتجنب استهداف المدنيين في غزة.. مع انهم مشاركون في الحرب إدارة وتخطيطا بالعدد والعدة والعتاد وليس بالشئون الفنية والنصائح فقط كما يقولون.. فاسراب الطائرات التى تقصف على مدار الساعة وتلقى آلاف الأطنان من القنابل الذكية والغريبة هي أمريكية ومعلن عنها رسميا..
ورغم تجاوز الحرب والعدوان لكل الخطوط الحمراء واي قانون دولي وإنساني من حيث الدمار والتخريب وازهاق الأرواح ١٦ ألف شهيد وعشرات الآلاف الآخرين من الجرحى والمصابين حتى الان إلا أن واشنطن تصر على عدم وقف النار وتدعي أن ذلك في صالح حماس!
يصرون على الحرب ويعلن وزير الدفاع الأمريكي اوستون أن الحرب مستمرة حتى القضاء على حماس..رغم أن هذا هدف مستحيل تحقيقه لا عقلا ولا نقلا .. لانه لم يحدث في تاريخ الاستعمار القديم أو الحديث مهما بلغت سطوته الحربية وجبروته.. ولم تسجل أي ادبيات موثوقة او غير موثوقة أنه تم القضاء على المقاومة وسحقها .. صحيح قد يتغلب عليها ينتصر في جولة ما لكن المؤكد أن الإنتصار دائما لقوى المقاومة والخزي والعار والرحيل من نصيب الاحتلال واسألوا أفغانستان ومن قبلها فيتنام والعراق وغيرها إذا لم تريدوا أن تصدقوا الناصحين..او تاريخ المستعمرين الكبار من قبلكم..
كثير من الخبراء والمحللين بمن فيهم اليهود يؤكدون أن انتصار إسرائيل في غزة مستحيل منهم المؤرخ اليهودي الكبير والذي نجا هو واسرته من المحرقة النازية نورمان فينكلستاين ..
قال في مقابلة مع بيرس مورجان المذيع البريطاني الاكثر تاييدا لإسرائيل على “سي إن إن”:إنه لا يدين “أفعال شباب غزة لأنهم ولدوا في معسكر اعتقال وفي واحدة من أكثر المناطق كثافة سكانية على وجه الأرض. فنصف سكان غزة من الأطفال و70% منهم من اللاجئين الذين طردوا من ارضهم عام 1948 مع أحفادهم إن من حق أهالي غزة أن يكرهوا المحتل الإسرائيلي وبالتالي أن يدمروا بوابات المعسكرات التي يعتقلون فيها بحثا عن حقهم في الحرية والعيش بأمان.
** أيضا الرئيس الامريكي الأسبق جيمي كارتر ايضا أكد أن الحسم العسكري في غزة صعب جدا لاي من الطرفين ولا يقدر اي طرف على كسر إرادة الآخر. فقد كشفت الأحداث أنه مهما بلغت درجة القوة التى تصل إليها دولة الاحتلال فإنها لن تنجح فى كسر إرادة الشعب الفلسطينى. وفى المقابل أيقن العرب أنه من المستحيل القضاء على دولة الاحتلال الإسرائيلى وإزالتها من الوجود.
وسجل كارتر شهادة مهمة على مايجري في غزة قال: إن ما يحدث للفلسطينيين الان أمر مروع..فالعدوان يتم على أراضيهم وعلى يد قوات محتلة وهي اسرائيل..لقد سلبوهم كافة حقوق الإنسان الأساسية كما حدث في جنوب افريقيا في نظام الفصل العنصري الابرتهايد ولكنه مع الفلسطينين مختلف تماما فهو مبني على رغبة اصلية إسرائيلية في الحصول على اراض يملكها الفلسطينيون والاحتفاظ بها مع استبعادهم عن ممتلكاتهم الخاصة واخضاعهم حتى لا يتمكنوا من إثارة ذلك أو إظهار عدم موافقتهم على سرقة ممتلكاتهم الخاصة وهذا ما يحدث تماما في الضفة الغربية.. ويقول كارتر أن الناس في امريكا لا يعرفون شيئا عن هذا ابدا ولم يناقشوه ليس هناك نقاش حول الموضوع ليس هناك انتقاد لاسرائيل في هذا البلد. يقصد أمريكا!!
ويؤكد أن السبب الأساسي للصراع هو الاحتلال الإسرائيلي المستمر لأراضي الفلسطينين وهو انتهاك مباشر لقرارات الأمم المتحدة وانتهاك مباشر لخارطة الطريق التي وضعتها اللجنة الرباعية الدولية وانتهاك مباشر الالتزامات التي قطعها قادة إسرائيل في الماضي في كامب ديفيد عندما كنت رئيسا للولايات المتحدة ووفي أوسلو حين وافقت إسرائيل على أن تنسحب من الأراضي المحتلة ..
يرى كثير من المحللين في واشنطن وغيرها ان موقف كارتر يتناقض كليا مع موقف الرئيس الحالى جو بايدن والذى يفتخر بأنه صهيونى على الرغم من كونه كاثوليكي متدين ووزير خارجيته الذي يتباهى بانه يهودي ابن يهودي..وعلى النقيض من كارتر اختار بايدن أن يقف فى الجانب الخاطئ من التاريخ ويدعم بلا حدود دولة احتلال لا تخجل من تطبيق سياسات الأبارتايد فى القرن الـ21 وسط صمت عالمى وتواطؤ أمريكى وعدم اكتراث عربى غير مسبوق!!
على جبهات تصدع الحقيقة نسمع ونقرأ تصريحات متضاربة لكبار المسئولين الامريكان تعارضها تماما حكومة العدو علانية بلا ادنى حرج او حساب للراعي والكفيل الأمريكي..أمريكا تقول انها مع حل الدولتين وفي الوقت نفسه يعلن نتنياهو لا شيء اسمه دولة فلسطينية وقال منذ يومين في لقاء مع نواب من حزب الليكود نصا:انا الوحيد الذي سيمنع إقامة دولة فلسطينية في الضفة أو غزوة بعد الحرب.. وامس الأول قال في معرض رده على مقترحات غزة بعد الحرب بما يفوق الوقاحة :إنه لن تكون إدارة أو سلطة فلسطينة في غزة !!
ليس هذا فقط بل إنه وعدد من المتطرفين في حكومته يقودون قطعان المستوطنين لسلب ونهب وتهجير الفلسطينين من منازلهم واراضيهم في الضفة الغربية. ويسارعون الخطى والزمن للسيطرة على مساحات اكبر من الأراضي وطرد الناس منها بكل السبل..
** يقول الصينيون في امثالهم الشعبية :”أنت لا تستطيع أن تمنع الطيور السوداء من أن تحلق فوق رأسك ولكنك تستطيع أن تمنعها من أن تعشش في رأسك”!
والله المستعان..
megahedkh@hotmail.com