يقول الكاتب المصري أنيس منصور: “كل شيء في الدنيا تعب، إلا الموت فهو نهاية كل تعب”.
بعدما أن أشرقت شمس اليوم الموعود، يوم عزمنا القيام بدفن جثمان أختي “نجاة” رحمها الله في قبرها وتحت الثرى، استقيظنا وقتها باكرين وفي عجالة من أمرنا لكسب الوقت وعملا منا بوصية رسول الله عليه أزكى الصلاة والسلام، حيث أوصى بأن إكرام الميت يتجسد في الإسراع بدفنه حلا لا مستقبلا، وقد سخر لنا القدر رجالا ونساء رغم قلة عددهم إلا أنهم قاموا بواجبهم الإنساني والديني اتجاهنا كأسرة الفقيدة المشمولة برحمة الله ورضوانه، فما كان منهم يومئذ سوى أن حلوا بمنزل خالتي “فاطنة” هناك بمدينة الدار البيضاء، وكل واحد منهم علم دوره وما له وعليه خلال هذا المأثم الحزين.
وما إن دقت الساعة الحادية عشرة صباحا حتى استوفت سيارة نقل الأموات بجانب المنزل، في الوقت الذي التحق بنا “با محمد” زوج خالتي “فاطنة” الذي أتم كل الاجراءات الادارية والقانونية المتعلقة بمراسيم الدفن، إذ تقرر دفنها بمشيئة الله وعونه داخل مقبرة الشهداء بمدينة الدار البيضاء، بعدها مباشرة تهيأ الموكب الجنائزي، وقام الرجال الأوفياء ممن حضروا لمواساتنا وشد أزرنا في محنتنا، وحملوا نعش أختي الميتة “نجاة” التي كانت ترقد بسلام وسكينة” داخل تابوت خشبي مسمر الغطاء بمساير حديديدية، ومشمع بالشمع والختم الأمني حفاضا على أمن الجثة، وضمانا لصيانتها من التعرض لأي تلف أو تشويه.
وفي لحظة معبرة جدا عن الفقد والحزن والبكاء، رأيتهم جميعا أولئك الرجال وهم يحملوا النعش المذكور مهللين ومكبرين بلا إله إلا الله محمد رسول الله، هنا في هاته اللحظة بالذات التففت من حولهم ذهابا وإيابا على أمل مني أن أجد من بينهم أبي “الحي الميت” قائلا في نفسي، لعل أبي سامحه الله قد راجع نفسه، وعاد عن غيه، وراجع نفسه وحثما سيكون قد جاء إلى هنا لتشييع ابنته التي هي من صلبه ولحمه ودمه، لكن لا شيء من هذا الأمر قد حصل، وكما سبق لي أن قلت فإن أبي سامحه الله كان حي الجسد في الدنيا لكنه ميت القلب والضمير إذ لا حياة لمن تنادي، ولا رجاء فيمن تترجى من غير الله وحده عز وجل شأنه في العالمين.
ولما وضعوا ذلك التابوت الحامل للروح الأمينة والساكنة في موتها الأبدي، صعدت إلى جاني ثلة من الرجال كان من بينهم “با محمد” زوج خالتي “فاطنة” جميعهم كانوا يتنهدون بشهيق وزفير كله حسرات تلو حسرات لما عاشوه ذلك اليوم من حزن كبير جراء رؤيتهم لابنة تنكر لها أبوها في الدنيا قبل الآخرة، ونأى بنفسه بعيدا عن مده يد المساعدة حتى في أحلك الظروف مثل هاته الفاجعة الإنسانية الكبرى، هذا في الوقت الذي كنت أنظر إليهم بطرفي أعيني خلسة، فيما كنت أركز بقية نظري واهتمامي بتابوت جثمان أختي “نجاة” قائلا في نفسي: “اسمحي لي يا أختي، كوني لم أودعك لحظة وفاتك، اسمحي لي يا بنة أمي وأبي فالذنب ليس ذنبي كما تعلمين، إذ لا حيلة لي وأنا طفل صغير، حقيقة أنت تألمت كثيرا ولوقت طويل، وعانيت كل المعاناة مع مرضك الشديد، لكن رحة ربي كبيرة وشملتك بالراحة الأبدية، فليجعل الله مثواك يا أعز أخت إلى فلبي، ويا شريكة معاناتي في الدنيا، واليوم حق لي توديعك رغم أني في عالم شهادة، وأنت في غالم الغيب، لكني على يقين بأني تشعرين بما يخالج صدري، ويفيض به قلبي من حب أخوي أزلي، لن يمحو غبار الزمن، ولن تأثر عليه نكبات الدهر والسنين أبدا”، حيث تقول الكاتبة الإنجليزية ماري آن إيفانز: “الموتى ليسوا موتى بالنسبة لنا حتى ننساهم”.
وبينما أنا على هذا الحال والمنوال، إذا بسيارة نقل الموتى قد استوقفت بشكل تام، هنا علمت بأننا داخل المقبرة المذكورة، حينها اقشر بدني، وتسارعت دقات قلبي، وفجأة انهمرت الدموع من أعيني، طوني علمت بأن أختي التي عاشت بيننا لسنين طويلة سندفنها بأيدينا تحت التراب بعدما أن كانت تؤنسنا رغم شدة عذابها قيد حياتها مع الألم والفقر والحرمان والمعاناة، لكنها حكمة الله في خلقه، فلله ما أعطى وله ما أخذ “إنا لله وإنا إليه راجعون” هي كلمة تجعل منا نخضع لقضاء الله وقدره بسكينة تامة وقلب مؤمن ونفس راضية، مباشرة بعد هذا الأمر وضع الرجال التابوت داخل القبر، وشرعوا يغطونه بالتراب شيئا فشيئا بدأت أرى تابوت جثمان أختي الميتة يتوارى عن رؤيتي ونظري إلى حين أن تم تسويته مع الأرض بشكل كامل وكأنها لم تكن من ذي قبل فوقها تدب وتمشي حية.
وفور عودتنا إلى المنزل دائما بمدينة الدار البيضاء، تم إكرام الزائرين من رجال ونساء غالبيتهم من ساكنة الحي القاطنة به خالتي “فاطنة” فيما كان بينهم عدد لا يتجاوز عدد أصابع اليد، هم وحدهم من كانوا يمثلون العائلة الفقيرة والبئيسة يومئذ، لقد أكلوا وشربوا حتى شبعوا فيما كنت وأمي لا نقوى على الأكل والشرب أن الواقع المؤلم كان قد أشبعنا حزنا وألما حتى فقدنا شهيتنا لأي أكل أو شرب اللهم شربنا للماء تارة وتارة أخرى بعضا من كؤوس القهوة العادية لكي نبقى يقظين ولا يتغلبنا النعاس ونحن في مثل هاته الظروف العصيبة في مأثم لا نحد عليه أبدا.
ومع غروب شمس ذلك اليوم وحلول الظلام، جاءنا وفد ليس من الملائكة ولا من الشياطين بل هم طلبة حملة القرآن المبين، طلبة الذكر الحكيم، رجال يرتدون بياضا في بياضا، ووجوههم تشع منها نظرات توحي بأنهم من أهل الله وخاصته فيما هم من أصحاب الأكل الشهي والطهي اللذيذ، والشرب السعيد، فسرعان ما شرعوا في قراءتهم لبعض آيات القرآن المبين حتى بدأوا يتوقفون من حين لآخر، فقلت في نفسي، لعلهم من أثر قراءتهم المرتفعة الصوت والمرننة بنبرات لا هي بترتيل ولا بتجويد بل بغنة كغناء المسرح الجميل “مسرح الأوبرا” حقيقة أن كل ما كانوا يقومون به ليس تأديتهم لشعيرة من شعار الله في هذا المأثم الحزين، بل غايتهم الأسمى تحصيلهم للمال من أسرة الميتة، وملء بطونهم الكبيرة الحجم وكأنهم “فرس النهر” والله على ما أقول شهيد لقد التهموا كل شيء وضعناه أمامهم من أكل وشرب، فحتى عظام الدجاج لم يرحموها أبدا كأن أسنانهم أسنان ضباع، وفكوكهم فكوك تماسيح، لا رحمة لهم اتجاة أسرة الميت حيث استولوا على مال ليس من حقهم سنة ولا شرعا، وأكلوا من لحم الميت أكلا حراما وسحتا كبير، لأن ذلك الطعام في الأصل كان مخصصا لأفراد العائلة ومن زارومنا يومها كونهم أتوا من بلدانا بعيدة وليس لديهم لا مبيت ولا مأكل سوى إيواؤنا لهم يومئذ.
المهم، هو أننا قررنا “أمي وأنا” العودة إلى منزلنا بمدينة القنيطرة صباحا، وهكذا لما صرنا على متن القطار بمحطة القطار “الدار البيضاء – الميناء” فتحت أمي كيسا من ورق وسلمتني تفاحة وموزة قائلة لي: كل يا ابني، فأنت لم تتذوق الطعام يومين متتاليين، ولا تحزن كثيرا على موت أختك، فهي أيضا ابنتي كما أنك ابني، واعلم جيدا أني أحببتهم منذ لحظة حملي بكم داخل رحمي، وازداد حبي لكم يوم ولادتكم، وليعلم الله أني كنت حقا ولازلت وسأظل تلك الأم الحنونة والرحيمة بك إلى أن ألقى الله ربي وهو راض عني، لأني يا ابني لم أقصر في شيء اتجاهكم، فليسامح الله أبوكم، فليسامح الله أبوك، وعند الله تجتمع الخصوم.
كلامي أمي لي هذا، كانت الغاية من وراءه تهدئتها من روعي، وطمأنتها لقلبي لكي ينطفئ حزني ولا يشتد غضبي على أبي، ولا يزداد حقد إزاه شيئا فشيئا، حقيقة أني أمي كانت على الدوام امرأة عظيمة جدا، ذات قلب رحيم، وعقل حكيم، وسماحة كبرى، لا تعرف الخقد ولا الغل ولا الضغينة أو الانتقام، هكذا عاشت أمامنا بظهر الوجه الواحد، والقلب الخالص، والروح الظتهرة، والنفس الزكية، أطال الله عمر أمي، وليجعل مقامها يوم لقائه بعد الحشر العظيم والعرض الكبير والحساب اليسير “الجنة بالفردوس الأعلى آمين يا رب العالمين.
… يتبع …