في وقت العدوان الغاشم على لبنان والأوضاع العصيبة التي مرت بها البلاد جاء تكريم فيلم «أرزة» بجائزتي أفضل ممثلة وأفضل سيناريو في مهرجان القاهرة السينمائي وعشية يوم الاستقلال «لتكريم روح وصمود الشعب اللبناني» كما وصفته لجنة المهرجان، ثم يأتي ترشيح الفيلم لتمثيل لبنان في جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي.
الفيلم يحكي قصة كفاح أم لبنانية عزباء أرزة «دياموند أبوعبود» تناضل لأجل تأمين حياة كريمة لها ولابنها المراهق كنان «بلال الحموي» وهو يمثل كثيراً من شباب جيله الذي يرثي لحاله ويتذمر من الظروف المحيطة به ويفكر دائما في الهجرة ورغم حبه لابنة الجيران فإنه حب عذري لا أمل فيه لسيطرة فكرة الهجرة عليه واستحالة الحياة في وطنه، وبينما تعمل أرزة في إعداد الفطائر داخل منزلها المتواضع وتبيعها للزبائن من سكان الحي بعد تلقي طلباتهم عبر الهاتف ولا تستطيع ترك الفطائر تبرد، ولا تملك وسائل تسهل لها عملها ولا وسيلة لنقل الطلبات وخاصة بعد ملل ابنها من السير على الأقدام للتوصيل، فتفكر في توسيع مصدر رزقها وتشجيع ابنها على العمل فتسرق سوار أختها لشراء دراجة نارية لابنها الذي تُسرَق منه الدراجة في لحظة غفلة، لتبدأ في البحث عنها في رحلة مأساوية ساخرة بين مناطق عدة في بيروت المليئة كواقع المجتمع اللبناني بمختلف الطوائف والمذاهب والانتماءات، وعندما تضيق بها السبل في رحلة البحث عن الدراجة المفقودة تضطر لتبني رموز دينية ولهجات متنوعة وتقمص شخصيات تنتمي للمكان الذي تذهب إليه، وبالطبع تذهب لذوي الخبرة في المنطقة بجملة شبه موحدة «دلوني عليك»، وقبل كل زيارة تذهب إلى متجر صغير للهدايا لتشتري الملابس والاكسسوارات التي تناسب سكان المنطقة التي تذهب إليها من حجاب، صليب، سلسال، ومع الوقت تنشأ علاقة جميلة بينها وبين البائعة شادية فقيه والتي تعبر بخفة ظل عن دهشتها من تناقض الطلبات، وهذه المشاهد هي مشاهد ساحرة لأنها كاشفة عن هوية لبنان التعددية، ولذلك كان استخدام الحس الكوميدي موظفاً بشكل رائع للتعبير عن هذه القضايا بشكل يدعو للاحترام وليس للتعصب والتشدد، وهنا تكمن قوة استخدام المسحة الكوميدية في الرؤية الدرامية التي غلفت الشريط السينمائي الرائع كسرا لجدار الحزن والأحوال البئيسة التي تخيم على الأحداث، لذا يحسب للقائمين على العمل، المخرجة والكتاب، نقل الواقع المرير الذي يعيشه المواطن اللبناني دون زيف أو تلميع ولكن بابتسامة رقيقة تبدل حاله من الحزن والألم الى السعادة والأمل..
وأجمل ما في الفيلم إسقاطه لاسم العنوان «أرزة» نسبة إلى أشجار الأرز رمز لبنان الموحد دون تعددية أو طائفية أو حزبية وكان أفضل رسالة لأفضل معنى.
كل هذا جاء مغلفا بأداء جميل وساحر لفريق العمل وعلى رأسهم الفنانة «دياموند بوعبود» التي كان أداؤها بالفعل ساحرا اتسم بالعاطفية المغلفة بالاصرار والصبر والمثابرة والهدوء وهي بالفعل أحد أهم عوامل نجاح العمل بأدائها المتميز الذي جعلها قريبة جدا من قلب المشاهدين، إلى جانب الأداء الرائع للممثل السوري الشاب بلال الحموي في أول ظهور له، وباقي فريق العمل بمن فيهم ضيوف الشرف.
والفيلم مستوحى من فيلم إيطالي بعنوان «لصوص الدراجات» بدأ التحضير له عام 2015 وصور عام 2022، وكان فيلما قصيرا في البداية، إلا أن المخرجة أضافت بعض التعديلات في السيناريو، ثم تحول الى قصة طويلة مشوقة بنموذج حي للمرأة اللبنانية والتي نجدها في أغلب مجتمعاتنا العربية تشبههن كثيرا فهي الأم والخالة والعمة التي تناضل من أجل تربية أبنائها بعيدا عن الأفكار والانتماءات السياسية والاجتماعية، وبعيدا عن الطائفية والتحزبية، الفيلم رسالة حب لبيروت وسرد لذكريات طاقم العمل والكثيرين من أهل بيروت وذلك ضمن تسلسل الأحداث، وصور في كثير من المناطق في ظروف صعبة وقت الحرب وانقطاع الكهرباء والزحام بشوارع بيروت، وتؤكد المخرجة والقائمون على العمل أن الاصرار على استكمال التجربة والدعم والمساندة والحب والتفاني من فريق العمل الذي وثق وآمن بفكرة العمل وضيوف شرف الفيلم وهم بالفعل مواطنون حقيقيون ينتمون للمنطقة والطائفة التي تم التصوير بها، مثلوا أدوارهم من واقع حياتهم اليومية، وهذا أيضا من أفضل جماليات الفيلم، وحتى الجمهور الذي تجمهر حولهم في كل منطقة ليدعمهم بكل الحب، كل هذا رسم صورة فسيفسائية جميلة لإحياء جمال التعددية والتنوع التي تتمتع بها بيروت.
ومن جماليات الفيلم أيضا رمزية الفطائر التي ترمز للدفء والحنان الدائم لرائحة المنازل والذكاء في تقديم الفطيرة الشهية إلى الشخصيات الجامدة لتذيب عدائيتهم ورفضهم المسبق للمساعدة، وهي دعوة للعطف والطبطبة التي يرنو اليها ويتمناها المواطن اللبناني، وفي لافتة رائعة أيضا من فريق العمل تم توزيع الفطائر اللبنانية كهدية على الجمهور بعد عرض الفيلم في مهرجان القاهرة السينمائي، عرض الفيلم في كثير من المهرجانات العالمية، والفيلم يصنف مصرياً لبنانياً تبعا لجهة الإنتاج، وأعلن علي العربي المنتج المصري عن تبرعه بجزء من حصة الايرادات لمساندة الشعب اللبناني.. الفيلم من إخراج ميرا شعيب وهي موهبة سينمائية لبنانية شابة تبشر بكل الخير، في أولى تجاربها السينمائية والتي عبرت عن سعادتها الكبيرة بالعمل مع دياموند أبوعبود والتي كانت تتمنى العمل معها، وتأليف «فيصل شعيب» «شقيق المخرجة»، ولؤي خريس والموسيقى التصويرية للموسيقي المصري «هاني عادل» «زوج الفنانة دياموند بوعبود»، والذي أعلن عن سعادته بالمشاركة رغم مخاوفه الكبيرة لإسناد هذه المهمة له في بلد يضج بالموسيقيين اللبنانيين العظام وهو من تربى على موسيقى الرحبانية وزياد الرحباني الذي عمل معه ويحترمه ويقدره كثيرا، وعدد كبير من أعضاء فريق العمل من الاناث، لذا فالفيلم بالفعل يدعم دور المرأة في المجتمع ليس فقط في سياق القصة بل في التواجد الغالب للنساء في العمل وذلك يؤكد رسالة الحب والاحترام والفخر بالمرأة اللبنانية المناضلة.
Omarfawzi3041966@gmail,com