لا تزال “المسألة السورية” الراهنة ستكشف عن مزيد المتطورات الكاشفة لتنفيذ مرحلة من مراحل تطبيق اصطلاح “مخطط الشرق الأوسط الصهيونوي الجديد”؛ والذي من سماته تفتيت أنموذج الدولة الوطنية الراسخة لتكريس مخطط الولايات والمقاطعات والزنقات والحارات؛ فتكون محيطاً فسيفسائياً عرقوياً ومذهبوياً حافاً بالكيان الاغتصابي المتمترس في المنطقة منذ وعد بلفور الساقط بإنشاء كيان إسرائيلي يكون في صورة “الدولة العقيدية اليهودية”.
وأحدث متغيرات المسألة السورية تتمثل في الطريقة الغرائبية لتشكيل ما يمكن وهماً وصفه كذباً بـ “الدولة السورية الجديدة” كما يجري الترويج لها بعد انهيار النظام السوري العتيق؛ لمسببات لا تخفى على العقل الباحث والتفكيكوي التفكير.
بمنطق التغلب الذي قام بتمكين “الميليشيات السورية” من إسقاط نظام الدولة السورية العتيقة وإخفاء سيرة الجيش السوري الأصلي للدولة، تبدو راهناً في الساحة بدايات تجليس المراكز الرئيسة في متوهم ما يُسمى “قيادات الجيش السوري الجديد”؛ والذي لا يسلك المنهجيات العسكريتارية في إقامة بُنى الجيوش الوطنية؛ بالاستفادة من مستقرات العلم العسكريتاري المعتمد في العالم كله؛ عبر الأكاديميات والكليات الاختصاصية؛ وفق المنهجيات الراسخة في كافة أطراف العالم.
وهذه الطريقة الغرائبية السورية في حقيقتها لا تعترف بالمنهجيات الدولاتية المستقرة؛ وتحاول في التجربة المنتكبة بالميليشيات تأسيس “جيش مبتسر” لأنه غير طبيعي في الولادة؛ إذ لا يوجد جيش سوري يمكن السيطرة عليه على الأقل بتغيير قياداته؛ ولا توجد لديه المكونات الطبيعية المتمثلة في “العديد/ الجند؛ والعتاد/ الأسلحة”؛ والتي قامت دولة الكيان الصهيونوي بتدميرها؛ فجرى التوغل العثمانللي وكذلك الصهيونوي في اغتصاب المزيد من الأرض السورية.
وفي هذه التدوينة لا يعنينا راهناً سوى التنقيب عن المتصورات الميليشياتية لتطبيق تشكيل جيش سوري وطني جديد؛ وفق هذه الأسئلة؟
هل توجد راهناً ما يمكن تسميته دولة سورية؟
ما هي ملامح وجودها الجغرافوي والسياسوي؟
ما هي معايير مكونات عناصر هذه الدولة/ قوة واقتصاداً وسياسة؟
ما مقدار السيولة المخيفة المتلبسة لما بدا يسمى الدولة السورية الجديدة؛ وهل تصلح هذه السيولة في إقامة دولة متماسكة ووفق أية شروط؟
هل ما يحدث راهناً في الأرض السورية يوحي باستصناع أنموذج مخطط له في مكاتب التفكير الاستراتيجوي؛ سيجري تطبيقه ليكون “الموديل المتخيل” لمستقبل التكوينات السياسوية الحاكمة في المنطقة لاحقاً؟
الأسئلة من هذه النوعية عديدة؛ وتنبع من محاولة القراءة للمضمر المسكوت السياسوي عنه للأحداث.
وسنكتفي في هذه التدوينة بقراءة عنصر واحد؛ بأهميته يكشف متصوراً مهما لما يمكن تسميته “عنصر بنية مؤسسة القوة الحامية” للوجود الدولاتي؛ أي المؤسسة الوطنية العسكريتارية. فما هي آليات التشكيل المتوقع لهذه المؤسسة؟ وما هي المعايير التي ستقوم عليها؟ وما مدى تناسب آليات وعناصر القوة بها في آطار مخططات هدم الدولة السورية القديمة؟ أليست هذه القوة منحصرة في قوات الميليشيات المتنافرة؟!
ووفق المقولة الشائعة: “الخطاب يُقرأ من عنوانه” لا شعور بالتفاؤل تجاه المستقبل السوري؛ وهذا الموقف محكوم بمنهج “القراءة من خارج الصندوق”؛ ومنفصل على أي شعور قد يبدو وجدانياً؛ إذ المعطيات في الواقع تكشف مدى السيولة في المجتمع السوري الراهن؛ وأن وجود الميليشيات هو الفعل الحاكم على الأرض ولا سواه؛ باعتبارها مصدر القوة الوحيد في الشارع الذي يحمل السلاح ويتحرك به.
وبالنظر إلى روافد الفكر المنشئ لهذه الميليشيات؛ فلا يمكن الشعور بالاطمئنان تجاهها؛ أو ما تقيمه بتوظيف الإرهاب بالقوة الغاشمة فردانياً بحكم انتشارها في الأزقة والحارات والزنقات والشوارع؛ ومنهج تأسيسها منبني على “المقولات الصهيوماسونية” لجماعة حسن الساعاتي البناء.
وفي مقدمة هذا الفكر التخريبي للقيم الوطنية ما تجسده عبارات لا تمل قطعان هذه الجماعة من ترديدها في فضاءات التواصل الاجتماعوي ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
حسن الساعاتي البناء: ” الجيوش العربية ضعيفة وعميلة للإنجليز واليهود، والمطلوب تأسيس “النظام الخاص” قوة عسكرية. ليؤسس بذلك فكرة إنشاء جيوش موازية يتوهم كذباً أنها ستحمل الصبغة الإسلاموية!!
سيد قطب:”إن هذه الجيوش العربية التي ترونها ليست للدفاع عن الإسلام والمسلمين إنما هي لقتلكم ولن تطلق طلقة واحدة على الصهاينة” !!
أبو محمد العدناني المتحدث باسم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” في رسالة مسجلة: “إن جيوش الطواغيت من حكام ديار المسلمين هي بعمومها جيوش ردة وكفر، وإن القول اليوم بكفر هذه الجيوش وردتها وخروجها من الدين بل بوجوب قتالها وفي مقدمتها الجيش المصري لهو القول الذي لا يصح في دين الله خلافه… فهذا الجيش المصري يسعى سعياً مستميتاً لمنع تحكيم شرع الله ويعمل جاهداً لإرساء مبادئ العلمانية والحكم بالقوانين الوضعية”!!
وهناك الكثير والعديد من المقولات الخاسئة المشابهة؛ والتي تعكس مستهدف هدم منظومة الدولة الوطنية لإقامة مُتوهم حسن الساعاتي البناء بإعادة إقامة دولة الخلافة المنقرضة.
إن هذه المقولات تتجسد فيما يحدث بالساحة السورية وتمظهرات تطوراتها؛ بعدما دانت لهم الدولة السورية القديمة وسقوط نظامها؛ ليبدأ تطبيق سيناريو الحالة الجديدة. ولعل القرار المريب الذي أصدره أحمد الشرع الجولاني القاعداني الداعشاني الموصوف من المنظور الأميركي السابق إرهابوياً بتعيين 6 إرهابيين غير سوريين في مناصب قيادية ضمن ما يُسمى “الجيش السوري الجديد” ضمن 50 شخصاً آخرين من خلفيات وجنسيات متعددة، لإضفاء الشرعية للميليشيات في حكمها لسوريا.
والتاريخ المعروف لهؤلاء الإرهابيين يفضح المستقبل المتوقع لسورياً الدولة القديمة؛ والتي سيديرها الفكر الميليشياوي لاحقاً؛ وقد جرى تجهيزها لسيناريوهات التفتيت بطريقة مثيرة؛ عبر تلاشي جيشها الوطني وترسخ الوجود الميليشياوي بنوعيه: الأول المساند لنظام الدولة من السقوط في جهة؛ والثاني المعادي لهذا النظام من الجهة الأخرى خادماً أجندة التفتيت لمصلحة الخصم العثمانللي الأردوغاني والعدو الحقيقي الصهيوني؛ وكلاهما اقتطع ما يَشاء من الأراضي السورية تحت منهج الأمر الواقع.
ومدى الاسترابة في منح الإرهابيين تلك الرتب العسكرية… أنها تبدو في الظاهر كمكافأة لهم؛ وفي الخفاء تعني بدء تجليس منهجية التأسيس للجيش الميليشياتي الذي يحقق المتأمل الخرافي الذي قام بالتنظير له حسن الساعاتي البناء وسيد قطب الماسوني بالتشكيك في الجيوش الوطنية والادعاء بأن مهمة هذه الجيوش هي الاعتداء على شعوبها؛ وليس تحرير فلسطين.
ويتناسى ذلك الفكر الميليشياتي مدى العداء الصهيوني نفسه لكل الجيوش الوطنية والحروب العديدة (1967 ـ 1973 أنموذجا)؛ فيما عُصَبُ الميليشيات تهادن الدولة الصهيونية سواء كانت داخل الأرض السليبة (نكبة تدمير واجتياح غزة 7 أكتوبر2024م أنموذجاً) أو خارج هذه الأرض. ولم نشاهد من أيَّاً من هذه الميليشيات من يجند عصاباته؛ ويتجه للأرض السليبة ليواجه قوى الأحتلال الغاصبة لأغلبية الأرض الفلسطينية.
بل والمثير للقهقهة ما قاله الشرع الجولاني القاعداني الداعشاني لصحيفة «التايمز» البريطانية، بأنه: لن نسمح باستخدام سوريا كنقطة انطلاق لشن هجمات ضد إسرائيل أو أي دولة أخرى ونحذرها من استمرار غاراتها، وطالبها بالانسحاب من المواقع التي دخلتها. مُضيفاً: “المبرر الذي كانت تستخدمه إسرائيل كان مبنياً على وجود حزب الله والميليشيات الإيرانية، وهذا السبب لم يعد قائماً”، وقال: “نحن ملتزمون باتفاقية عام 1974، ونحن مستعدون لإعادة مراقبي الأمم المتحدة”.
والسؤال: يا جولاني ما هي قدرات الميليشيات ببنادقها لإجبار الدولة الصهيونية على الانسحاب؛ وكم مرة انسحبت تلك الدولة المغتصبة بغير القوة الحاسمة (انتصار أكتوبر 1973 أنموذجاً). والواقع إن هذه التصريحات هي من نوعية “كلام مجالس الثرثرة في المقاهي”؛ وتعد عملية تجميل لوجه ودور “تمدين” الإرهابي؛ ليدير دولة ستحكمها الميليشيات!!
وما يؤكد هذا التصور هو قيامه بتصعيد رفاقه الإرهابيين ليشكلوا محيطه الحاف؛ وهم عبد الرحمن حسين الخطيب أردني الجنسية؛ وعبد العزيز داوود خدابردي من “الحزب الإسلامي التركستاني” وعمر محمد جفتشي الملقب بـ “مختار التركي”، وعبدل صمريز بشاري الملقب بـ “أبو قتادة الألباني”، والإرهابي المصري المطلوب علاء محمد عبد الباقي المحكوم عليه بالإعدام؛ ومن ألقابه العملياتية “أبو محمد ضياء” أو “الظلامي” سابقًا والذي دخل الأراضي السورية مرتبطاً بـ “هيئة تحرير الشام” وشغل بها مناصب قيادية عديدة؛ وذكرت المواقع الإعلاموية أنه كان مسؤولا عن بيع الغنائم والممتلكات المسروقة من مناطق المعارك، بالإضافة إلى عمليات القتل والخطف وتهريب المسروقات بما في ذلك الإغاثة.
وفي إطار التلبيس على الجمهور فإن التقارير تقدر بلوغ أعداد الإرهابيين الأجانب في سوريا بحوالي 3800 عنصر من جنسيات متعددة مثل الإيغور، والألبان، والأوزبك، والتركستان، والقوقاز. ما يعني سعي تلك الجماعة لإضفاء شرعية على حكمها في سوريا. والتي لن تشكل أبداً جيشاً وطنياً سورياً قدر ما تقوم بتثبيت نوعية “الجيش الميليشياتي” الجديد؛ انعكاساً لفكر حسن الساعاتي البناء وسيد قطب الماسوني بمنطوق: “الجيوش العربية عميلة؛ وهي جيوش الطواغيت وتسعى لقتل المسلمين و… إلخ”!!
المسألة بوضوح أن الدولة الصهيونية بالرعاية الأميركية تعيد راهناً تشكيل الجهة السورية مستفيدة بوجود خليط الميليشيات بها بعد أن رتبت أمورها في غزة المنتكبة بفعل “جماعة حاء” المتأخونة. والخلاصة أن المنطقة يُعاد تشكيلها من جديد وفق “سيناريو الشرق الأوسط الصهيونوي الجديد