يسهمُ الفن بشكل فاعل وحيوي في تهذيب الذوق العام وصقله لدى المتلقي، ويساعد في عملية النهوض بالوعي العام، والارتقاء بالذائقة الجمالية، والمؤثر الفاعل في العقل الجمعي، فالفن ملهم أصيل من ملهمات الجمال، يسمو بالإنسان إلى قيم الفهم الرفيع لجدليات الوجود البشري، ويغذي دوائر المعارف لديه، باعتبار (الفن) الحاضن الناشط في تطهير الذات من رواسب خطاياها، والكشف عن المشكلات الاجتماعية، وطرح الأسئلة الكبرى، للبحث لها في عقل المشاهد عن أجوبة مدروسة وشافية، و(الدراما التلفزيونية) واحدة من ملاحق ذلك الفهم العالي لمهمة الفن الجمالية والاستكشافية والإنسانية، وقد أكدت على هذا النسق الكاتبة الجنوب افريقية المناهضة للتميز العنصري والناشطة الإنسانية (نادين غورديمير) قائلة:
- قد لا توجد طريقة أخرى لفهم الإنسان إلا من خلال الفن.
ولعل هذا الطراز المائز من الفهم والإدراك الذي يصبّ في صالح الفن كوسيلة فضلى للخلق والإبداع، بوصفه الطريقة المثلى لفهم الإنسان، والتعبير عن مكنوناته، والإعلان عن آراءه، والارتقاء به أدبيا وثقافيا، باعتبار الفن الملهم الجمالي والفلسفي الذي يأخذ على عاتقه قيادة الرأي صوب ملحمة التغيير عبر منافذه التعبيرية المختلفة المنابع، ونوافذه التجسيدية الصورية المرئية كــ(الدراما التلفزيونية) بوصفها الحيز الفني المتواجد على مستوى العائلة العربية.
ومن خلال هذه المقدمة الموجزة، وعلى ضوء معايير ومكامن وأسرار اشتغالنا الطويل في المشغل المسرحي ككاتب وممثل ، وفي الدراما التلفزيونية ككاتب سيناريو، أؤمن شخصيا بأن توزيع المهام وفق ضوابط العمل التخصّصي هو الطريق الأنجع للوصول إلى نتائج ذات قيمة عالية في إنتاج عمل درامي تلفزيوني متكامل الرؤية الفنية، وخاضع لضوابط المنجز الصوري الأمثل، وسأستعرض وبإيجاز العناصر الأربعة ومجاوراتها المشاركة في إنجاح مهمة الدراما التلفزيونية.
- كاتب السيناريو:
يُعدُّ كاتب السيناريو الأب الشرعي للعمل الدرامي بوصفه صاحب الفكرة والمتجوّل الواقعي والمخيالي في عقول الشخصيات ورسم أماكن تحركاتها، وتحديد أزمنتها، وهو المؤسس الفاعل في تأثيث الرؤية الابتدائية، والمنشئ الأول للفعل الدرامي عبر كتابة الصورة على الورق، وكما أطلق عليه (خالق الصورة المرئية على الورق) والمتحدث باسم الشخصيات، ورافدها بشحنات التواجد المرئي الفاعل في جسد العمل الدرامي من خلال الحوار، وتأثيث المشهد، فهو الرابط الأساس بين البداية والوسط والنهاية، وهو الفاعل العاقل في صياغة الثيمة، وتحويلها إلى حبكة رئيسية بفروعها الثانوية المتشابكة والمكملة لها، ليؤسس بذلك لحالة التشويق التي تستحق المشاهدة والمتابعة. - المخرج :
يعتبر المخرج هو المتسيّد الأول على العمل، وهو صاحب الرؤية بداية من القراءات الأولى، إلى مرحلة المونتاج، حتى العرض، وهو بالتالي القائم على تحقيق فعله البصري الإبداعي، وتحويله إلى شريط درامي متكامل المخاصب الفنية والتقنية، بمساعدة ومساندة فاعلة من قبل كوادر الفنيين كمدير التصوير، ومهندس الصوت، والمصورين، ومدير الإضاءة، ومصمم الديكور، والمدير الفني، والمونتير، وبقية الكوادر الفنية والتقنية، وجميع هذه المجاورات تحقق رؤية المخرج باعتباره المسؤول الأول والأخير في ضبط ايقاع نجاح العمل الدرامي من عدمه، ويكاد يكون هو الأوحد الذي توجه له الإشارة الكبرى بالنجاح، والإدانة قي حالة الإخفاق من قبل النقاد والمشاهدين. - الممثل:
هو المُجسَّد الحقيقي لما يجول في ذاكرة الكاتب، وتحقيق رؤية المخرج بوصفه الأداة المطواعة لتنفيذ توجهيات المخرج، والممثل هو مالك القدرة الفاعلة في التجسيد، والمسيطر الناجح في ترويض انفعالاته، وتطويع صوته وملامحه لمواصفات الشخصية وفق تبعيتها البيئية والإنسانية، وتشكيل ملامحه الشكلية والجسدية والنفسية التي تتطلبها الشخصية، وله القدرة المتخليّة في تقمّص الشخصية بفعلها الدرامي لينقلها بحرفية عالية إلى الشاشة، وإحالتها إلى شخصية حقيقية حيَّة مقنعة بجلّ تفاصليها لفئات كبيرة من المشاهدين باختلاف شرائحهم. - المنتج :
هو المسؤول على اعتماد النصّ، في حالة كان جهة الإنتاج خاصة او مؤسساتية، وهو الذي يعتمد الأموال عبر رسم خطة صرف ضمن سقف مالي محدد، وتتاح له بعد ذلك قياس مديات الربح بعد ترويج العمل الدرامي التلفزيوني الى القنوات العارضة، وتقع عليه مسؤولية التعاقد مع المؤلف والمخرج والممثلين على ضوء ذلك السقف المالي، ويشترط ان يكون برأينا من المشتغلين بالوسط الفني لمعرفة التفاصيل التي من شأنها رفع العمل الى مستوى المشاهدة الرفيعة.
ومن خلال هذا الاستعراض السريع لمسؤوليات المشرفين على المهام الأربع (السينارست-المخرج-الممثل-المنتج) هذه المسؤوليات الفاعلة والمؤثرة في تأسيس دراما تلفزيونية تستحق العرض، وبالتالي لتحقيق المشاهدة، وهذه المهام هي التي تُضفي أفعال الوجود الحقيقي لشريط الدراما التلفزيونية، وتحويله من مهمته الأولى في حلم التحقق، الى عملية التحقيق، وإحالته الى مشروع فني مقنع ممتع متكامل، من نواحي الرؤية الفنية المتجانسة بين النصّ والرؤية الإخراجية الفنية، والتمثيل، وينتج بالضرورة عن هذا التعاون المثمر بين السينارست والمخرج والممثل والمنتج، ان نخرج بحالات صحية معافاة من العمل الدرامي الذي تُبنى عليه الكثير من الآمال في تقديم وجبة درامية تليق بالمشاهد، (ولا ادري ما لزوم هذه الشرطية في عرض المسلسلات التلفزيونية في رمضان) فقد تحولت هذه الظاهرة ضد الأعمال، وليست لصالحها، فقد تجاوزت أعداد المسلسلات الى أكثر من سبعين عمل عربي تقريبا، ويحتاج المشاهد العربي سبعون عينا ليشاهد يوميا سبعين حلقة، وهذا يعني انه يحتاج يوميا الى سبعين ساعة ليكون قد حقق معادلة المنتجين والفضائيات، نعتقد لكي نبلغ مبلغنا الفني والإنساني والأخلاقي، ان نعمل جدولة تضمن إنتاج عددا مقنعا من المسلسلات سنويا لنحقق بذلك شرطية (المتعة والمنفعة) وهي رسالة الفن الذهبية، ولكي نضمن ان ما نقدمه للسيد المشاهد عملا دراميا إبداعيا راقيا يليق بالمشاهدة، لا السعي خلف كسب المال السريع من المنتجين، وبعض الممثلين الذين تجاوزت أجورهم في بعض المسلسلات العربية إلى أرقام خيالية على حساب المشاهد الذي يدفع ثمن شهرتهم وثرائهم الفاحش، وعلى حساب خلع ملابسهم لنرى قوامهم الرشيق في المعارك التي يضرب فيها البطل عشرة رجال بــ(دفرة) واحدة، والسؤال هنا.. من المسؤول عن هذه الفوضى الدرامية البعيدة عن الواقع، نجزم بأن خلف كل هذا والمسؤول عنه الأول والأوحد هم اصحاب (المهام الأربع) ليحقق لهم ذلك قتل الدراما العربية في وضح النهار، وتخريب العقل العربي الجمعي، ووأد الوعي، وإشاعة روح (الفتونة) والخروج عن القانون، وصناعة البطل الهشّ الذي يصرخ من بداية المشهد الأول إلى أن يخرج من (موقع التصوير) وفي عمل تاريخي راح المؤلف (الصحفي) الغير متخصّص بكتابة السيناريو يسرد الحقائق التاريخية على هواه، وعلى ضوء ما يُملى عليه، مبتعدا بذلك عن قول الحقيقة التاريخية المجردة من الأهواء الشخصية، إن مهمة السينارست الأخلاقية تفرض عليه بالدرجة الأساس ان يحكم ضميره المهني، قبل ان تجره عواطفه ونوازعه الذاتية الى منزلقات تؤدي به الهاوية من قبل شرائح الاستقبال الشعبية، لقد خرج المؤلف من المسلسل وهو يرتدي لباس الرفاهية الكاذبة الأشرة، والمجانبة لحقائق التاريخ الدامغة، ليخلق هوة حارقة بين أهل الدين الواحد، انه مشروع مدفوع الثمن، وهو زيف تاريخي مريب، قد اختلط به الحابل بالنابل.
إن مسلسلات رمضان التي استدعت النفور الكامل من قبل أفراد العائلة العربية التي تنتظر مشاهدة أعمال درامية رمضانية لائقة بها، لا أن تشاهد هذه الفوضى الدرامية، البعيدة عن الواقع، لتخدش أسماعها برفاهية من العري اللفظي، والفساد الحركي، ومشاهد القتل ونزف الدم، والبعيد كل البعد عن واقع مجتمعاتنا العربية المحافظة.
وفيما يخص الدراما العراقية فالحال لم يختلف كثيرا، تكررت ذات المأساة رغم ان (الحكومة) قد دعمت الدراما التلفزيونية بمبالغ كبيرة، ورغم ان القائمين على إنفاق هذه المبالغ على الإنتاج كانوا أمناء في صرفها وفي المتابعة الجادة والحريصة على الأعمال وسير تنفيذها بشكل يومي، وسعت لجان الحكم بإخلاص لاختيار الجيد من الأعمال المقدمة، ويبدو إنها كانت الأفضل من بين الأعمال السيئة، فقد راحت المسلسلات تراوح في ذات المساحة المكررة من الثيمات، وبنفس الدائرة المفرغة من ضعف السيناريو، والسرعة في التنفيذ، والتي أدت وبنجاح على عزوف بائن من متابعتها ومشاهدتها من قبل العائلة العراقية.
وهذا علينا الإشارة .. بأننا ووفق المهنية الفنية، والرؤية النقدية، لا يمكن لنا البتة من غبن بعض المسلسلات العربية والعراقية التي لا تتعدى عدد أصابع اليد الواحدة، وعدم إعطائها حقها بالإشادة لما حققته من استجابة رفيعة، واستقبال جيد من قبل السادة المتلقين.
نحن نأمل.. ان نشاهد مستقبلا دراما تلفزيونية عربية تليق بالذائقة الجمعية، وترضي شرائح مجتمعية كبيرة تنتظر ان تشاهد أعمال درامية ذات (ثيمات) تفيد التغيير في مشاكل مجتمعاتهم المنبثقة من الواقع، لا أن تهبط بهم إلى قاع الفوضى، فمهمة الدراما التلفزيونية الأولى هي ان تزيل عن كواهلهم بعضا من التعب والكد اليومي، لأن قاعدة الفن الرائدة مستقاة من (المتعة والمنفعة) وعلينا ان نلج إلى أعماق المعنى الحقيقي للأشياء، لا أن نعالجها من الخارج، فحين نحقق هذه الفرضية المثلى والراقية، نكون قد أنجزنا الفاضل من مهمتنا الراقية في الفن، فمهمة الفن كما قال أرسطو:
- ليست مهمة الفن تقديم الشكل الخارجي للأشياء، وإنما تقديم المدلول الداخلي لها.