تتحدث الأوساط السياسية في إسرائيل عن تحولات إستراتيجية في الموقف الأمريكي كشف عنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في لقائه الثاني مع نتنياهو الأسبوع الماضي، ويتساءل بعض الكتاب في الصحف الإسرائيلية: هل ينبغي على الإسرائيليين أن يقلقوا من أمريكا الجديدة التي تتخلى عن شركائها وتغير ولاءاتها وتطلق النار في كل اتجاه، أم أنهم سيظلوا على يقينهم بأن ترامب لديه رابط عاطفي مع إسرائيل، ولن يخونها كما خان شركاء أمريكا في أوروبا والمكسيك وكندا؟
وهناك من الكتاب من استبد به القلق على نحو مافعل ديفيد ستافرو الذي نشر مقالا في صحيفة (هاآرتس) بعنوان “ماحدث لجرينلاند يمكن أن يحدث لإسرائيل”، قال فيه إن جزيرة جرينلاند التي تسعى للاستقلال عن الدانمارك تعرضت في الأشهر الأخيرة لهجوم عدائي وغادر من الولايات المتحدة التي كانت شريكتها وصديقتها لعقود، وهو ما يمثل خرقا للقواعد والعهود وتهديدا للجزيرة بالضغط عليها وابتزازها لتحقيق رغبة ترامب في اقتناصها من الدانمارك، وما حدث مع جرينلاند يمكن أن يحدث مع إسرائيل، وفكرة التهجير التي تطرح للفلسطينيين اليوم يمكن أن تطرح غدا للإسرائيليين، وإذا كانت الانتهازية الأمريكية تعمل لصالح إسرائيل مؤقتا فيجب أن يضع الإسرائيليون في اعتبارهم أنهم غير محصنين ضد هذه الانتهازية إلى الأبد.
والحقيقة أن ترامب لا يؤتمن جانبه فعلا، وتقلباته لايمكن التنبؤ بها، إلا أن الهلع المبالغ فيه الذي أصاب إسرائيل من مفاجآت لقاء ترامب ونتنياهو يعكس هشاشة هذا الكيان وعدم ثقته بقدراته الذاتية رغم كل ما يدعيه من قوة وجبروت، ويعكس أيضا اقتناع الإسرائيليين بأن مصير دولتهم إلى زوال إذا ما رفعت عنها الحماية الأمريكية والغربية.
وكان ترامب قد منح نتنياهو دعما مطلقا في لقائهما الأول مطلع فبراير الماضي، أما في هذا اللقاء الثاني فقد كشف عن جملة من التحولات في مواقفه، وأثار العديد من التساؤلات عن دلالات هذه التحولات، إذ لم يعط نتنياهو دعما مطلقا، وإنما أعطاه جملة من النصائح تعبر عن “إعادة تقويم” للسياسة الأمريكية تجاه حليفتها، وتفرض عليها إعادة حساباتها الإقليمية والدولية.
ومن أبرز هذه التحولات التي أزعجت الإسرائيليين دعوة نتنياهو إلى سرعة إنهاء الحرب في غزة، والعودة إلى المفاوضات لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى في غضون أسبوعين أو ثلاثة، وضرورة التفاهم مع تركيا حول سوريا واحتواء التوتر مع أردوغان، (ما يعني تحجيم الأطماع الإسرائيلية في الأراضي السورية)، وإجراء مباحثات أمريكية مع إيران بشأن برنامجها النووي، (ما يعني تجاهل التحريض الإسرائيلي المستمر لشن هجمات عسكرية على منشآت إيران النووية)، ثم زيادة الرسوم الجمركية الأمريكية على إسرائيل التي كانت صفعة سياسية واقتصادية على وجه نتنياهو.
وقد حملت هذه التحولات دلائل على فقدان تل أبيب قدرتها على التأثير في القرار الأمريكي، وسحب التأييد المطلق الذي منحه ترامب لنتنياهو في اللقاء الأول، كما حملت رسائل سياسية وإستراتيجية جعلت نتنياهو يطأطئ رأسه إلى أسفل.
لكن ما سبب هذه التحولات المفاجئة؟ هل استيقظ ضمير ترامب فجأة؟ الأمر المؤكد أن الرجل لا يعرف لغة العواطف والضمائر، ولا يهتم بالقوانين والشرائع، وإنما تحركه المصالح والتوازنات، ويكفي أنه لم ينطق بكلمة عن الإبادة الجماعية التي يمارسها جيش الاحتلال، ولم يهتم بوقف مخطط التهجير الذي يجري تنفيذه في غزة والضفة الغربية، ولم يلفت نظره الحصار المطبق على غزة الذي يمنع دخول أية مواد غذائية أو إغاثية لأهلها منذ استئناف العدوان في 18 مارس الماضي.
وأقصى ما بلغه ترامب في تحولاته أن أعطى نتنياهو مهلة أسبوعين أو ثلاثة لإنهاء الحرب وحسم المعركة عسكريا بهزيمة المقاومة واستعادة الرهائن، وإذا لم يتحقق ذلك فسيكون البديل العودة إلى اتفاق الصفقة التي انقلب عليها نتنياهو، وهذا ما يفسر وحشية المجزرة التي ارتكبها جيش الاحتلال في حي الشجاعية بمدينة غزة في اليوم التالي مباشرة للقاء واشنطن، والتي قتل فيها 3 رهائن ممن تأسرهم المقاومة إلى جانب 35 فلسطينيا معظمهم من الأطفال والنساء.
لذلك يمكننا أن نرد تحولات ترامب المفاجئة إلى ثلاثة أسباب:
الأول: صمود المقاومة وأهل غزة في مواجهة آلة الحرب وإغراءات التهجير، والرفض العربي والدولي الشامل لـ (مخطط الريفييرا)، وتحول الموقف المصري ومن ورائه الموقف العربي والإسلامي إلى (هجوم المبادرات) التي استطاعت محاصرة المخطط الأمريكي الإسرائيلي، وتقديم بدائل أكثر عقلانية وأكثر قبولا على المستوى الدولي.
الثاني: تململ ترامب من كثرة المطالبات العربية والدولية لإيقاف الحرب التي طال أمدها، وعودة مظاهرات التضامن مع غزة في أوروبا والعالم العربي، وفي الولايات المتحدة نفسها التي شهدت مظاهرات ضد ترامب في 1100 موقع، كان قسم كبير منها يهتف لغزة، وهذا الاحتقان الجماهيري قد ينفجر وتكون له عواقب وخيمة على كل الأطراف.
الثالث: الانقسامات الداخلية في إسرائيل التي تتسع يوميا مع تزايد مظاهرات أسر الرهائن والمعارضين لإقالة رئيس جهاز الشاباك والرافضين لإعفاء المتدينين من الخدمة العسكرية والمطالبين بمحاسبة حكومة نتنياهو لتقصيرها في مواجهة هجوم السابع من أكتوبر 2023، وأخيرا حركة تمرد العسكريين التي يشارك فيها جنود نظاميون واحتياطيون وضباط كبار سابقون يرون أن الحرب تخدم مصالح نتنياهو السياسية والشخصية ولا تحقق أهدافا إستراتيجية واضحة رغم كلفتها المادية والبشرية المتزايدة، وبسبب هذا التمرد انخفضت الاستجابة لاستدعاءات الخدمة بنسبة 25%، ووقع 970 من سلاح الجو ـ بينهم طيارون ـ على رسالة طالبوا فيها بوقف الحرب، ورد الجيش مهددا بفصلهم من الخدمة وتقديمهم للمحاكمة.
