تشتعل مواقع التواصل الاجتماعى فى عالمنا العربى بجدال لا يتوقف حول موقف الجماهير العربية من مقاومة الاحتلال-أى احتلال- خاصة عندما يكون احتلالا عرف عنه القسوة والظلم وإهدار الحقوق والتجرد من كل القيم والأخلاق مثل الاحتلال الصهيونى.
والواقع أن السبب الرئيس لهذه الحالة الجدلية هو ما وصل إليه حال غزة من دمار وخراب وما لحق بأهلها من قتل وما مورس ضدهم من حرب إبادة لم يشهد التاريخ الحديث مثيلا لها.. فهى جريمة العصر بكل المقاييس.
ولكى نضع النقاط على الحروف ونخرج من هذه الحالة الجدلية بموقف يمكن أن يريحنا بعض الشيء من الاتهامات العشوائية بالتعاطف مع هذا أو ذاك فضلا عن الاتهام بخيانة القضية والانحياز لرؤية صهيونية حقيرة تحمل المقاومة الفلسطينية نتيجة كل ما حدث ويحدث فى غزة.. علينا أن نتحدث عن مجموعة ثوابت مهمة يقرها الدين الصحيح.. ويدعمها كل قانون إنسانى يكفل حقوق أهل كل وطن محتل.
الثابت الأول الذى لا يجوز الجدال حوله هو (الحق فى مقاومة الاحتلال) وهو حق تكفله كل الشرائع السماوية وهناك نصوص واضحة وثابتة فى نصوص الأديان السماوية تؤكد أن مقاومة كل من اغتصب أرضك وأهدر حقوقك من الواجبات الدينية التى لا يجوز التخلى عنها، وكل من يتخلى عن مقاومة محتل مع قدرته على هذه المقاومة هو من المذنبين أو الآثمين شرعا.
وانطلاقا من هذا الثابت لا يجوز أن ترتفع أصوات نشاز تبث روح الاستسلام فى نفوسنا كعرب ومسلمين عندما نواجه العدو الصهيونى الذى عهد العالم منه كل صور الاجرام خلال عقود مضت.. فضلا عما فعلته آلته العسكرية من دمار وخراب.
وهنا.. يطرح سؤال نفسه: هل يشترط أن تمتلك المقاومة القوة العسكرية التى يمتلكها العدو لتحصل على شرعية مقاومته؟
والاجابة هنا سهلة وليست مجهدة.. حيث لم تمتلك جماعة مقاومة على مستوى العالم قوة عسكرية مناظرة لقوة المحتل، ومع ذلك انتصرت جماعات المقاومة وحصلت على حريتها أو نالت بعض حقوقها.
ومن هنا لا يجوز نشر روح الاستسلام والخنوع فى نفوس الأجيال الجديدة من العرب فى مقاومة العدو الصهيونى المجرم الذى انتشر فساده برا وبجرا وجوا لأن هذا الاستسلام لن يوفر للبلاد العربية وخاصة تلك المجاورة للعدو الصهيونى أمنا ولا أمانا، ولن يضمن لها حماية، لأن العصابات المتعاقبة التى حكمت وتحكم تل أبيب تنفذ مخططات رسمها لهم المتطرفون الصهاينة لتحقيق حلم دولتهم الكبرى والخرائط التى عرضها مجرم الحرب “النتن ياهو” فى الأمم المتحدة قبل حرب طوفان الأقصى وبعدها تؤكد أهداف الصهاينة فى المنطقة العربية، وأن الأمر لن يتوقف عند إعادة احتلال غزة وابتلاع الضفة الغربية.. لكن الأطماع تفوق ذلك بكثير وما تحت يد الصهاينة الآن من أراضى عربية محتلة هو مقدمة لما يخططون لاستكماله خلال السنوات القادمة.
النتيجة التى وصلنا إليها هنا أنه ليس من حق أحد أن يدين أى مقاومة للاحتلال الصهيونى وليس من حق أحد نشر روح الاستسلام وقبول احتلال الأرض دون مقاومة فهذه أبشع جريمة ضد الأمة.. جريمة يدينها الشرع، وتدينها كل القوانين والأعراف الدولية.. وتدينها النخوة والشهامة العربية.. ومن يقبل بذلك هو إنسان ضعيف هزيل لا يستحق البقاء على قيد الحياة لحظة واحدة.
بعد الوصول الى هذه النتيجة المهمة.. هل كانت حماس على حق فيما قامت به فى السابع من اكتوبر 2023؟
هنا تختلف الرؤى.. البعض يرى أنها كانت على حق وما قامت به مشروع فقد مارس الاحتلال كل صور الحصار والتجويع لأهل غزة وكشف عن مؤامراته الحقيرة ضد المسجد الاقصى .. والبعض الآخر يرى أن أهل غزة كانوا يعيشون فى أمان نسبى ولم يكن على أرض غزة جندى صهيونى واحد.. وبالتالى فإن ما ارتكبته حماس كان مغامرة جرت على فلسطين كلها وعلى بعض البلاد العربية حربا بلا هواده وبلا أخلاق وخارج إطار قيم وأخلاقيات الحروب التى عرفها العالم.
لقد انطلقت عملية حماس فى السابع من اكتوبر دون أن تنسق مع أحد سوى إيران التى تبعد عن حدودها بآلاف الأميال.. لم تستشر أحدا خاصة فى الدول المجاورة لها رغم ارتباط عناصرها بمشاورات وتعاون مع الأجهزة الأمنية فى الدول المجاورة.
وبعد بدء الطوفان الذى جلب على غزة وأهلها كل الويلات وتدخل الدول الفاعلة فى المنطقة وأبرزهم مصر لوقف العدوان على غزة وحقن دماء من تبقى من أهلها والنجاح فى وقف العدوان وتسليم الرهائن والأسرى الفلسطينيين.. فماذا كانت النتيجة؟
استعرضت حماس قواتها العسكرية وخرجت بعناصرها وسياراتها الفارهة وأسلحتها من الأنفاق فى مشاهد استفزت العدو المجرم وداعمه الأول أمريكا.. وهنا استغل العدو هذه المشاهد الاستعراضية لحماس ليؤكد أن الحرب لم تحقق أهدافها وأنها ستعود للقضاء على حماس.. وقد كان!!
عاد العدو المجرم ليشن سلسلة جديدة من الهجمات العنيفة على غزة ومحاصرة أهلها وقتل الآلاف منهم خلال أقل من شهر.
لقد أكد العديد من المحلليين السياسيين والعسكريين أن الخطأ الأكبر لحماس كان فى استعراضها العسكرى أثناء مراسم تسليم الرهائن حيث أوحت للعالم أنها لم تتأثر بالحملة العسكرية المدمرة لقطاع غزة، وأن عناصرها لا زالوا بصحة جيدة، ومعهم سياراتهم الفارهة، وأسلحتهم، وهو ما أعطى الفرصة للعدو المجرم الى اقناع الادارة الأمريكية ومعها العديد من الدول الأوروبية التى تساند عدوانها بضرورة استئناف الحرب للقضاء على حماس.. وكانت العودة للقتال مدمرة كما رأينا خلال الأسابيع الماضية ليدفع الشعب الفلسطينى ثمنا باهظا لهذه المغامرة وهذا العناد الذى أضاع وطن وألحق أكبر الأذى بشعب مطحون لا يكاد يفيق من عدوان حتى يأتى عدوان آخر يخسر فيه كل شىء.
استعراض حماس هو الذى يستند إليه العدو المجرم الآن بضرورة تجريد حماس من أسلحتها كشرط أساسى لوقف الحرب على غزة.. ورفض حماس يعنى استمرار العدوان على غزة وتدمير ما تبقى منها وقتل المزيد من شعبها
للأسف.. لم تستفد حماس من تجربة مصر وخبراتها فى التعامل مع العدو الصهيونى، ولم تستجب للنصائح التى قدمت لها من مصر.. والنتيجة إعطاء الفرصة لأبشع قوة احتلال فى التاريخ لكل تصل بغزة وأهلها الى ما نراه اليوم.. وهو يدمى القلوب ويجلب الألم والحسرة لكل غيور على وطنه العربى الكبير.