من يكتبنا؟ سؤال يبدو عاديا لكنه يحمل في أعماقه جوهر الوجود وسرّ البقاء. لا أقصد هنا مَن يكتبنا على الورق أو في الكتب بل من يُشكّل سرديتنا، من يروي قصتنا، من يصوغ ملامحنا في مرايا الذاكرة، والتاريخ، والحلم.
في زمن التحوّل حيث تتغيّر الخرائط وتتبدّل الأولويات وتخبو الهويات الفرعية أو تصطخب يصبح سؤال “من نحن؟” أكثر إلحاحا. لكنه لا يُجاب عليه في المؤتمرات ولا بالمقولات الجاهزة بل بالعودة إلى سؤال الكتابة: من يكتب حكايتنا؟ من يصوغ ملامحنا في ظل المتغيّرات؟ وهل نملك أدوات الكتابة أم أننا نُكتب من خارجنا؟
الهوية ليست قالبًا جاهزا نرتديه بل نحت دائم نُعيد تشكيله ونحن نسير. والبلدان التى تنهض لا تكتفى بالبناء فوق الأرض بل تعيد ترميم صورتها في الوعي. تقف أمام المرآة وتسأل: كيف نرى أنفسنا؟ كيف نُعرّف ذواتنا؟ ما الذى يجعلنا “نحن” وليس غيرنا؟
ومصر – بطبيعتها الحضارية المتفردة – تملك من العمق ما يجعل سؤال الهوية أكثر من ضرورى فى لحظة تحوّلها الكبرى. فهى لا تعيش مجرد إصلاح اقتصادي أو بنية تحتية أو توسع عمرانى بل تعيش تحولا فى الذات فى الطريقة التى ترى بها نفسها وتُقدّمها للعالم.
فى العقود الماضية عشنا فترات من “الكتابة بالنيابة”. بمعنى أن صورتنا كثيرا ما كانت تُصاغ من الخارج: من كتابات المستشرقين من تحليلات الإعلام الدولى من تقييمات المؤسسات وحتى من وجهات نظر بعيدة عن المزاج المصرى العام. كأننا ننتظر أن يخبرنا الآخر: من نحن.
لكن مصر الجديدة – كما بدأت تتشكّل فى وعي الدولة والمجتمع – تعود لتكتب نفسها بنفسها. عبر مشروعاتها وإعلامها، وإنتاجها الثقافى وأدواتها الذاتية. هناك جهد واضح لإعادة إنتاج الهوية المصرية بشكل حديث لا يُلغى التراث، ولا يُقصى الحداثة بل يحاول أن يدمجهما فى معادلة متوازنة.
انظر مثلا إلى مسار إعادة إحياء الرموز الوطنية. من جمال عبد الناصر وأنور السادات ، إلى مصطفى كامل وطلعت حرب. ثم إلى بعث الحياة فى الأماكن التى تحكى عن الهوية كمتحف الحضارات ومنطقة الأهرامات والمتحف المصرى الكبير. هذه ليست فقط مشروعات سياحية بل كتابة لهويتنا بلغة العصر وعرض للحكاية المصرية من داخلها لا عبر عيون الآخرين.
بل إن التحوّل الرقمى نفسه – بما فيه من أرشفة ذكية وتوثيق شامل – يدخل ضمن إعادة كتابة الذات. فمن يملك بياناته ، ويُدير روايته ويفتح منصاته للتعبير الحرّ المسؤول، يمتلك زمام هويته.
وفى موازاة ذلك هناك حوار مجتمعى بدأ يعلو: ما هى القيم المؤسسة لهويتنا؟ ما علاقتنا بالتراث؟ كيف نصوغ الوطنية بعيدا عن الشعارات؟ كيف نرى أنفسنا كمصريين في ظل هذا العالم المفتوح ، دون أن نتوه أو نتقوقع؟ هذه الأسئلة هى بحد ذاتها علامات نضج ، لأن الهوية ليست ما نعرفه فقط بل ما نراجعه ونطوّره ونجرؤ على إعادة النظر فيه.
والمهم أن هذا النقاش يتم بهدوء دون انفعال ودون تقاطع مع الثوابت. فالمطلوب ليس هوية مغلقة جامدة ولا هوية ذائبة بلا ملامح ، بل هوية مرنة ، تعرف من أين جاءت، وتعرف إلى أين تتجه ، وتعرف أن اختلاف الداخل ليس تهديدًا بل مصدر قوة، إذا أُدير بعقل.
“من يكتبنا؟” هو أيضا سؤال المستقبل. لأن من يكتب حكاية بلده بطريقة صحيحة، يحصّن وعي الأجيال القادمة ويمنحها ما يُشبه البوصلة. لا تختبئ خلف النُصب التذكارية ، بل تفتح نافذة على الذات تقول لنا إن هذه الأرض عرفت التقلبات واجتازت العواصف وها هى تبنى ، وتتحوّل ، وتُعيد بناء حكايتها بنديّة.
فى زمن التحول نحتاج ألا نترك روايتنا على الطاولة فارغة. لأن الذى لا يكتب نفسه سيكتبه الآخرون نيابة عنه. والذى لا يُدرك هويته قد يستفيق ذات يوم وهو لا يعرف نفسه.