خدعنا الأستاذ الكبير محمد العزبى خدعة لذيذة، أشاع أنه تقاعد واعتزل الصحافة والكتابة، ولم يعد يهتم بشيء فى الحياة بعد أن تقدم به العمر وضعف بصره، ثم إذا به يتحفنا بكتاب يتألق شبابا، ويقطر صحافة وشقاوة، ويفصح عن نفسه من عنوانه المشاغب ” هل يدخل الصحفيون الجنة ؟ “، ومع قراءة صفحاته الأولى نكتشف أن الأستاذ الكبير لم يتقاعد ولم يعتزل، وإنما هو فى قلب المعترك الصحفى، يراقب الأحداث ويربط بينها بذاكرة حديدية، ويتابع ما وراء الكواليس من أسرار وحكايات، يمسك بخيوطها المتشابكة رغم اختلاف ألوانها وأشكالها.
ويؤكد الأستاذ العزبى من خلال هذا الكتاب ـ الوثيقة ـ أنه يعرف من أمور السياسة والصحافة أكثر مما يعرف صحفيون لايزالون يذهبون إلى مكاتبهم ومصادرهم، وأنه قادر بحكم علاقاته الواسعة وكثرة محبيه على استقاء معلومات طازجة ودقيقة، تثرى مخزونه من الأسرار والحكايات الذى لايتقادم ولا ينضب، ثم يشكل من هذه الأسرار والحكايات لوحة حية نابضة جذابة فى كتاب شيق ممتع، يشف عن روحه المرحة الودودة وقلبه الطيب، وقلمه الجاد دائما، الحاد أحيانا.
والأستاذ محمد العزبى من الكتاب الصحفيين الذين حافظوا على ضمائر أقلامهم بتواضع شديد، فقد نأى بنفسه طوال مسيرته الصحفية الممتدة لأكثر من 60 عاما عن السقوط فى فخاخ الكذب والنفاق، وصنع بقلمه عالما خاصا من الأداء المهنى المحترم، الذى لايتدنى إلى مهاوى التضليل والإفساد وتزييف الوعى، وله العديد من الكتب التى تؤكد شغفه بالتأريخ لما حدث ويحدث فى عالم الصحافة، على اعتبار أن الصحافة مرآة المجتمع، لعل أشهرها كتابه ” الصحافة والحكم “، وكتاب ” صحفيون غلابة “.
ثم يأتى كتابه الأحدث ” هل يدخل الصحفيون الجنة ؟ ” فى 282 صفحة متضمنا العديد من القصص والحكايات التى كشف من خلالها علاقة كثير من الصحفيين بضمير القلم الذى يمسكون به، وهو فى ذلك لايصدر حكما على أحد، فكلهم أصدقاؤه وأحباؤه، وإنما يقدم لك حكاية واقعية كفيلة بأن تقول بذاتها كل شيء .
ومن أظرف حكاياته مارواه عن نفسه حين يتحدث عن مولده فيقول : ” غالطت الحكومة فى واحد وعشرين يوما، فلم يكن فى أيامنا يسجل المولود باليوم والساعة، ولدت بقريتى فأرسلت جدتى لأبى تسمينى ( محمد بهاء الدين )، ولكن المنوط به تسجيل الأسماء رأى أن ( محمد جاد الحق ) أفضل، وقد كان، وكانت الحكومة زمان لارد لكلامها، هذا مع أن العمدة الذى يتبعه الكل كان خالى “، ثم ينقلنا برشاقة من الماضى إلى الحاضر فيقول : ” حاولت طوال سنوات عمرى أن أكون منحازا للبسطاء لعلى أدخل الجنة، ولكن هل يدخل الصحفيون الجنة ؟ أم أن الصحف والتوك شو وما شابهها لاتصدر إلا فى نار جهنم وبئس المصير؟ “.
وبعد هذه الدعابة اللطيفة يذكرنا أن حكاياته العجيبة عن الصحلفة والصحفيين ليست للتسلية، ” فقصة الصحافة ليست قصة مهنة وإنما قصة بلد بكل مافيه من مبدعين ومدعين، ولصوص وشرفاء، وأثرياء ومهمشين، وأبطال وخونة، ومشهورين ومغمورين، وزعماء وظرفاء، ومهرة وعجزة، وعلماء وجهلة، وعبيد وأحرار، وكذابين وأتقياء، وانكسارات وانتصارات “.
وفى الكتاب حكايات جادة وحكايات مأساوية، وأيضا حكايات طريفة ذات مدلول مأساوى، مثل تلك التى أوردها عن موسى صبرى رئيس تحرير ” الأخبار ” الأسبق، الذى قال عنه أنه كان يذهب بنفسه لتغطية بعض المحاكمات وبعض جلسات مجلس الشعب وهو رئيس للتحرير، وقد اشتهرت قصته وهو يحضر كصحفى محاكمة ” خميس والبقرى ” الشهيرة فى كقر الدوار وباقى المتهمين فى قضية إضراب عمال شركة مصر للغزل والنسيج فى بداية ثورة يوليو 1952، وعندما سأل رئيس المحكمة العسكرية عن محامى المتهم ولم يكن موجودا طلب أن يتقدم أحد الحاضرين للدفاع عنه، ولم يكن هناك من الحاصلين على ليسانس الحقوق سوى الصحفى موسى صبرى، فانتدبه رئيس المحكمة وبدأ مرافعته التى انتهت بإعدام المتهم، وكانت هذه أول وآخر مرافعة لموسى صبرى.
وتمتد حكايات العزبى من الماضى إلى الحاضر، من مصطفى وعلى أمين ومحمد حسنين هيكل ونجيب محفوظ وبرلنتى عبدالحميد وإحسان عبدالقدوس وثروت عكاشة وجمال الغيطانى وصلاح عيسى إلى مجدى مهنا ومجدى الجلاد وأنور الهوارى ومحمد أمين وحلمى النمنم وطارق الشناوى وصلاح عطية وشارل المصرى وغيرهم وغيرهم.
لكن تبقى أكثر الحكايات تأثيرا تلك التى ختم بها عن ابنه ” سامح ” الذى توفى فى ريعان شبابه، يقول الأستاذ العزبى:” تركنى سامح ابنى وحبيبى وسندى، ذهب وحده للقاء ربه، كنت أتوكأ عليه فى شيخوختى وأرى الدنيا بعينيه بعد أن ضاع منى البصر، وأأتمنه على وصيتى بعد موتى، فإذا به يخدعنى ويموت قبلى، تجمع حولى الأصدقاء والزملاء وشباب جريدة ” الجمهورية “، حيث عشت وعملت كل سنوات عمرى، يشاركوننى الحزن والألم، ومنهم كثيرون لم أتشرف بمعرفتهم عن قرب، لفت المشهد نظر صحفية شابة فأخذت تتساءل حائرة : ” مين الأستاذ محمد العزيى اللى زعلانين عشانه ؟! “.