اصطف إيهاب فى الصف للصلاة بجوارى، واضعا القدم فى القدم والكتف فى الكتف كما وجهنا الإمام، ثم رفع يديه إلى مستوى أذنيه وأغمض عينيه بخشوع وبصوت هامس لايسمعه سوى من يقف بجانبه من أقرانه قائلا: نويت أصلى أربع ركعات فرض صلاة الظهر حاضر فى الصف الثالث جنب الحمار، ثم يرفع يديه مكبرا تكبيرة الإحرام قائلا بتقعر واضح للحروف: ( الله أكبر ) فلا يملك من يقف بجواره نفسه من ضحك لايلبث أن يسرى بين باقى الأقران الواقفين فى الصف والغريب أن سرّ الضحك عندما يتلبس أحداً فى الصلاة لايستطيع أبداً السيطرة عليها.
هكذا كان إيهاب يدخل الصلاة ونحن فى مطلع حياتنا صغاراً، حيث يتعمد الوقوف بجوار أحدنا ليضحكه، وهو على الأرجح لم يكن يصلى، ولكنه كان يفعلها فقط من باب اللعب والتهريج.
إيهاب الجن، هكذا كنا ندعوه ونحن صغار وبعدها اشتهر بهذا الاسم فى الحى كله والأحياء المجاورة، لتاريخه الذى نسجه بيديه منذ صغره بالشقاوة والإجرام، قريننا فى السن والشارع، آتاه الله بسطة فى الجسم والجرأة من مطلع حياته، يظن من رآه أنه أكبر من عمره، كان كلما كبر يوما ازداد جرأةً وقوة وبطشا لايهمه أحد صغيراً كان أم كبيراً
حين كنا نخاف من دخول المدرس إلى الفصل، كان هو يعد له مقلبا هستيريا، نرتجف عندما يدخل علينا حضرة الناظر، أما هو فقد كان يتعمد القيام بحركات مضحكة تخرجنا عن شعورنا فنلقى بسببه التأنيب والعقاب.
دخل مرة مفتش اللغة الفرنسية للفصل، ففوجئنا بإيهاب الجن قد رفع أصبعه بثقة متناهية يريد الإجابة على السؤال الذى طرحه المفتش علينا، وألح عليه بطريقة أذهلت مدرس اللغة الفرنسية الذى لم يتلق ولا إجابة واحدة من إيهاب على أى سؤال وجه إليه طول العام الدراسى، وعندما وقف إيهاب للإجابة على السؤال، نطق مجموعة من الحروف المتراكبة ذات الإيقاع الفرنسى بسرعة كبيرة، مكونا جملاً لامعنى لها فى أى لغة من لغات العالم، مما أدهش المفتش والأستاذ، وتعجبنا كيف عرف إيهاب كل هذه الكلمات الفرنسية، ومن أين أتى بهذه الطلاقة؟ وحين انتهى من وصلة الرد على السؤال، ساد صمت مطبق فى الفصل، إقترب منه المفتش بهدوء، ووضع يده على كتفه برفق وسأله:– ماهذا الذى تقوله يابنى؟.
فقال بثقة مدهشة وهو يشير إلى مدرس الفرنساوى:– هذا الديالوج الثالث الذى درسه لنا الأستاذ فى الدرس الخصوصى بالأمس ولم نخرج من حجرة الدرس إلا وقد حفظناه عن ظهر قلب.
فحدج المفتش الأستاذ بنظرة قاسية فى حين أغمض المدرس عينيه بعصبية وهو يهز رأسه فى أسى.
وفعلها مع موجه اللغة العربية حين دخل فى حصة النصوص وكان اسم النص، تجارب الحياة للشاعر أبو الطيب المتنبى، ومن حظ المدرس السيئ أنّ الموجه أوقف إيهاب الجن ليسأله سؤالا بسيطا جداُ:– ما اسم النص الذى تدرسونه اليوم؟.
فقال إيهاب بثقة مضنية:– تجارة الحياة.
وما إن نطق بهذه الكلمة حتى علا وجه الموجه الدهشة، ثم نظر للسبورة ليتأكد أن الكلمة مكتوبة تجارب الحياة وليست تجارة الحياة، ثم التفت إلى إيهاب وسأله ليتأكد من اسم النص؟ فقال إيهاب بثقة أكبر:– تجارة الحياة.
سكت الموجه قليلاً ثم قال:– ومن مؤلف نص تجارة الحياة أيها التلميذ النجيب.
فقال بسرعة وقوة:– ألف نص تجارة الحياة الشاعر الكبير المتلبى.
نشأنا معاً فى حى واحد، نسكن فى نفس الشارع، ودخلنا المدرسة سويا، وكبرنا معا حتى دخلنا الثانوية العسكرية، كان نجم المدرسة الأول بلا منازع فى الفترات القليلة التى كان يأتى فيها للمدرسة، فتارة يأتى المدرسة بجلباب وشبشب، وتارة نجده أمام المدرسة يبيع فاكهة على عربة يد، وتارة يأتى ببدلة كاملة وكرافت، لم يرتدى أبداً زى المدرسة العسكرى، ولم يتجرأ أحد من ضباط المدرسة ولا المدرسين على مراجعته فقد كان طويلاً جسيماً عليه قوة وجرأة لاتخفى على أحد، تجعل كل من يحاول الاقتراب منه يفكر ألف مرة قبل أن يضع نفسه فى موضع لاتحمد عقباه مع طالب فى المرحلة الثانوية.
لم يترك منكراً منذ أن بلغ الحلم إلا وفعله، صاحب النساء وشرب الخمر، لعب القمار، وحين يدخل فى معركة على أثر خلاف ما مع أحد المجرمين، كان يفترسه حتى لو كان أكبر منه فى السن أو الإجرام.
وفى الصف الثالث الثانوي مات أبوه فجأة بعد إصابته بذبحة صدرية إثر معركة كلامية مع إيهاب تطاول فيها بألفاظ لاتليق مع أب فوقع على الأرض مغشياً عليه ومالبث أن فارق الحياة، وورث عن أبيه تجارة رائجة فى الحبوب، وتوقع الجميع إنهيار هذه التجارة وإعلان إفلاسها فى غضون شهور قليلة، ومن العجيب أن إيهاب خيب كل التوقعات، فقد راجت التجارة واتسعت أكثر وأكثر، برغم أنه لم يتخل عن غلظته وجبروته أبداً، ولا عن السهر وتناول المخدرات، ومصاحبة الساقطات وترويع كل من يفكر فقط أن يعترضه.
منذ تلك اللحظة افترقت بنا الحياة برغم أننا نعيش فى شارع واحد، وخفت سيرته مع الأيام فلم نعد نذكره إلا على سبيل التفكه والتندر فقط، فقد سلك كل منا طريقا مختلفا تماما، هو أكمل طريقه فى التجارة، وأنا اخترت المسجد طريقا لى، كنا نعود إلى الشارع فى الإجازات الصيفية فنمارس أنشطتنا فى المسجد، فنحفظ الأولاد الصغار القرآن الكريم، ونمارس بعض الأنشطة فى الحى فنقوم بنظافته وتجميله، وخدمة أهل الحي الفقراء، فنجمع الطعام والكساء من الأغنياء ونعطيها لهم، وغيرها من الأنشطة التى تحدث حركة جميلة فى حينا، كل هذا يتم أمام المعلم إيهاب دون أن يتحرك من مكانه أو يتفاعل مع شيء، فقد كان دكانه مواجها للمسجد ومع ذلك كنا نتجنبه تماما خوفاً من ردود أفعاله التى لايتوقعها أحد، لم يكن بيني وبينه سوى تحية عابرة إذا تواجهنا من قريب، فيرد التحية أو لا يرد كأننا أغراب لم يعرفنى يوما ولم نجلس لسنوات طويلة متجاورين فى سنوات دراستنا الأولى.
لم نلحظ ونحن وقوف أمام المسجد نتشاور فى مشكلة كبيرة، أن إيهاب الجن كان يرقبنا باهتمام، وحين انصرفنا كل فى طريقه فإذا بصوته الخشن ينادى علىّ باسمى، فوجئت.. ثم اندهشت.. ثم ارتجفت ثم انتبهت على ندائه الثانى فالتفت مبتسما.
جلست بجواره ودون أن يسألنى طلب لى قرفة بالزنجبيل، ثم التفت إلى قائلا:– ماذا ستفعلون فى هذه المشكلة؟.
فاجأني هذا الاهتمام ونظرت إليه نظرة متفحصة محاولا أن أفهم مغزى السؤال ثم تجرأت فى نفسى فطمعت فيه، قلت:– الأمر هذه المرّة كبيرٌ علينا، الطفلة تحتاج لعملية جراحية عاجلة ستتكلف الكثير جداً وما نجمعه لايكفى أبداً لإنقاذها.
فاجأنى للمرة الثانية مفاجأته المذهلة قائلاً:– أنا سأتحمل تكاليف العملية كاملة.
لم أضع الوقت فقلت له:– بشرط.
قطب جبينه وقال شبه غاضب:– شرط؟.
فقلت بسرعة:– أن تأتى معنا وتدفع بيدك كل مصاريف العملية وترى الطفلة والأطباء والمستشفى.
قال:– أنا أثق بك.
قلت:– المسألة ليست ثقة وفقط، ولكن إذا كنت تفعل ذلك لوجه الله، فالله سبحانه وتعالى يحب أن يراك تفعل ذلك بنفسك.
كان الشباب فى المسجد فى منتهى الذهول حين رويت لهم القصة، قال لى أحدهم ضاحكا:
– إيهاب الجن؟ لو أسلم حمار الخطاب.
وقال الآخر:– أشك أنه سيتبرع بمليم واحد، رأيته مرة يصفع شحاذاً على وجهه طلب نصف جنيه، إنه يتلاعب بك.
وقال ثالث:– دعونا نرى كيف سيفعل.
قال الرابع:– موعد العملية اقترب ونحن ننتظر.
اختلط الكلام وتشعب حتى قلت حاسما الأمر:– ليس أمامنا الآن غيره سأذهب إليه الآن.
مافعله إيهاب الجن فى المستشفى فاق كل تصوراتنا، كنا نطمع أن يدفع مصاريف العملية بيده فقط ولكنه فعل أكثر من ذلك، فقد استقبل الطفلة وهى محمولة على السرير وداعبها وضحك لها ثم مال عليها وقبلها فى مفاجأة مذهلة أنست حتى أهل الطفلة ماهم فيه من محنة، ووزع الأموال على الممرضات ليعتنين بها أفضل عناية، ووقف ثلاث ساعات كاملة معنا أمام غرفة العمليات حتى خرجت، وعندما ارتمت أمها عليها تقبلها لم يستطع تحمل المشهد، فانزلقت دمعة من عينيه فداراها بسرعة بيده فمسحها.
عاد إيهاب الجن إلى جلسته أمام دكانه المقابل للمسجد الشيشة لاتفارق شفتيه ونفس ملامح الغلظة البادية على وجهه، أمرُّ عليه فألقى التحية بجرأة أكثر فيرد دون حتى أن ينظر إلى، كأن كل ماحدث كان حلما أو خيالا، وعادت الحياة لمجراها الطبيعي وكل الأحاديث التى قيلت فى شارعنا بتعجب عن موقف إيهاب الجن فى المستشفى أودعها هو فى طى النسيان بجبروته وغلظته مع الناس.
ما إن بدأت مفاجأته الأولى تدخل إلى طى النسيان حتى فوجئنا به واقفاً بيننا فى وسط المسجد هكذا فجأة.
كُنّا فى حلقات تحفيظ القرآن مع الأشبال، حين دخل مخبر من أمن الدولة ووقف وسط المسجد وقد علا صوته طالبا منا الهويات الشخصية منذراً متوعداً باعتقالنا جميعا لمجرد أننا نحفظ الأطفال الصغار القرآن، وقد ركبنا جميعا الخوف فران علينا صمت مطبق فعاد المخبر للصياح مهدداً بالاتصال بمديرية الأمن للقبض علينا الآن، وأخرج هاتفه وبدأ فى إجراء اتصال، وفجأة دوت صفعة هائلة على وجه مخبر أمن الدولة فأوقعته على الأرض، فالتفت فإذا بإيهاب الجن بطوله وعرضه الذى انحنى إليه فرفعه بيد واحدة واستمر فى صفعه صارخا فيه:– ملعون أبوك وأبو الذي أرسلك.
ثم جذبه من قفاه وقذفه خارج المسجد صارخا فيه:– لو رأيتك هنا سأعلقك من قدميك فى وسط الشارع.
ثم التفت إلينا والشرر يتطاير من عينيه قائلا:– ياجبناء.. ياجبناء ما تفعلونه صحيح أم خطأ؟.
فلم يجب أحد من هول المفاجأة فقال كأننا أجبنا بنعم:– كونوا رجالاً لاتخافون من حشرة مثل هذا.
خيم الصمت علينا فلم يقطعه سوى صوت المؤذن لصلاة المغرب.
حين اصطف إيهاب بجوارى للصلاة وتهيئنا لتكبيرة الإحرام جاءنى الابتسام، وتذكرت كيف كان يتعمد الوقوف بجوارى ليضحكنى، أما هو فقد وقف للصلاة متصلب الجسد كأنما يخشى أن يرفع يديه مستسلما لله.
لم نره بعد ذلك فى المسجد ولم يأت للصلاة مرة أخرى، فكرت كثيراً فى هذا الرجل محاولاً أن أجد مفتاحا لهذه الشخصية حتى قال لى أحد مشايخنا:– هذا الرجل فتح لكم بابا فلا تغلقوه عليه ببحثكم عن أبواب أخرى، باب الإنفاق، رمضان على الأبواب أمامكم فرصة عظيمة فلا تضيعوها وتضيعوه.
كأنني عثرت على جوهرة ثمينة من جواهر الحياة النادرة تشجعت وتجرأت وقذفت بنفسي عليه فاستقبلني متفاجئا قلت له مازحاً:– ممكن أشرب قرفة بالزنجبيل؟.
فابتسم لى لأول مرة فى حياته وقال:– ولو أنك لاتستحق.
قلت له:– لماذا؟
قال:– لا أحب الجبناء.
قلت وقد شعرت بانبساط الحديث.– ليس كل الناس أقوياء مثلك.
قال وقد بدا عليه الضيق:– صاحب الحق لايجب عليه أن يخاف.
قلت:– كان عمر بن الخطاب قوى يحتمي الصحابة به.
قال:– ولكنهم لم يكونوا جبناء أبداً.
قلت مستسلما:– عندك حق.
قال:– أهلاً وسهلاً.
كأنه يقول ماذا تريد.. قلت له:– كل عام وأنت بخير رمضان على الأبواب.
قال بتحفز:– وأنت طيب.
قلت مجترئا أكثر:– عندنا بيوت فقيرة لايعرف عن فقرها أحد، ونريد أن نوفى لها احتياجاتها مع دخول رمضان.
أشرق وجهه بسرعة كأنما عثر على كنز قائلا:– أنا تحت أمرك فى كل ماتحتاجونه.
قلت:– بارك الله فيك وتقبل منك، ولكنك ستأتي معنا.
قال:– أين؟.
قلت:– لهذه البيوت، فتعطيها بيدك وترى كيف يفرح الناس بالفرج.
قال:– مستحيل.
كنت أعرف أن ذلك صعب عليه خاصة مع تاريخه الأسود، فقلت:
– عادة نذهب بعد صلاة العشاء حتى لانجرح هذه البيوت، فكر ورد على بغير ذلك لن نأخذ منك شيئا.
لم يرد على وأشاح بوجهه كأنما ينهى المقابلة.
هل أخطأت حين اشترطت عليه؟ هل أغلقت باب الخير عليه باستثارة عناده؟ ندمت أننى فعلت ذلك أيما ندم، وهممت أكثر من مرة أن أذهب إليه ولكن ماذا أقول له؟ وهو لم يعد يعيرني أى اهتمام، ولم يعد يرد حتى على تحيتي له، الأيام تتوالى ورمضان أوشك على الدخول وقد جمعنا بعد مجهود مضن بعض الأموال التى تكفى بالكاد البيوت التى رصدناها، حتى كانت ليلة رمضان فوجئت بعامل يعمل فى وكالته يقول لى:– الحاج ينتظرك.
قلت بفرح مضطرب:– يافرج الله.
أسرعت إليه وجدته واقفاً أمام باب الوكالة بهامته الطويلة مرتدياً جلباباً أبيض فضفاضا وقد جهز السيارة وقال:– هيا بنا.
قلت له:– إلى أين؟.
قال :– إلى البيوت التى حدثتني عنها.
قلت بتلقائية سعيدة:– الله أكبر.
قال هازئا:– سنبدأها بمظاهرة؟ هيا لاتضيع الوقت.
كان أول بيت دخلناه لامرأة هجرها زوجها ولديها سبع بنات، كانت تعرفنا ولكنها فوجئت بإيهاب الجن فبادرتها قائلا:– الحاج إيهاب جاء ليطمئن عليكم.
قالت مندهشة:– أهلاً وسهلاً.
قال لها إيهاب بتلقائية أولاد البلد:– ماذا أكلتم اليوم؟.
قالت:– فول نابت والحمد لله.
فأخرج لها مائة جنيه فناولها لها ثم ناول البنات كل واحدة مائة جنيه، وحمل الصغرى وقبلها وأعطاها مئتى جنيه كان رد فعل الأم كبيراً تحركت باضطراب غير مصدقة ثم ضحكت شاكرة وقد تجمعت الدموع فى عينيها بسرعة كبيرة حتى انفجرت بالبكاء، لم يحتمل إيهاب رؤيتها على هذه الحال فولاها ظهره باضطراب واضح ثم تحرك نحو الباب قائلا:– كل عام وأنتم بخير.
لحقت به وهمست له:– هذا كثير جداً.
قال بغلظة:– لاشأن لك، اشترطت أن آتى معك وأتيت فلا تتدخل فيما أدفعه.
فسكت وتركته يفعل ما يريد.
ظل طوال الجولة صامتاً شارداً يرقب فرح الأطفال بابتسامة حزينة، وظل على صمته حتى انتهينا من زيارة كل البيوت التى رصدناها وعندما عدنا إلى شارعنا التفت إليه وقلت:– جزاك الله خير الجزاء وغفر لك.
لم يرد على دعائي سوى أن قال بصوت جاف متحشرج:– لو علمت أنك ذهبت بدوني لهذه البيوت لقتلتك، كل ما يحتاجونه فى رقبتي حتى أموت.
قلت فى نفسى أعطاك الله طول العمر.
انتظم إيهاب الجن فى الصلاة من فجر أول أيام رمضان، راقبه الناس باهتمام وتوجس، لايكلم أحدا ولايقترب منه أحد، وبعد عدة أيام دعوته لإفطار فى المسجد نقيمه لأهل الحي، فسألنى:– من الذى دفع ثمن الإفطار.
قلت له:– كلنا.
قال:– كيف كلكم؟.
قلت:– الجميع يتشارك بما يستطيع، نفعل ذلك كل عام.
قال:– تفعلون ذلك كل عام ولاتدعونى؟ ستدخل جهنم من أوسع أبوابها.
قلت مبتسما:– ها أنا أدركت نفسى وأتيت لأدعوك.
قال:– أنا سأتكفل به.
قلت:– فات الوقت الفطور تقريبا جاهز.
قال:– تمام، الجمعة القادم تقيم إفطارا على حسابى سأذبح عجلا بهذه المناسبة
قلت:– اتفقنا.
كنت أشعر أن إيهاب الجن يستقبل حياة جديدة عليه، كأنه ينسلخ من ماض ليستقبل أياما جديدة عليه، كان يؤدى الفرائض المكتوبة فقط لم يزد عليها شيئا، كانت كل الحواجز بيننا قد أزيلت وأصبحت ألقاه يوميا فقد كان يرسل فى طلبي ليسألني عن البيوت والفقراء، لم تتطرق أحاديثنا لغير ذلك، وكلما حاولت الاقتراب من مشاعره يصدني بصمته وأحيانا بأن ينهرني قائلا : انشغل بنفسك، ومع ذلك كنت أشعر بعاطفة خاصة بيننا تؤهلني لأن أغوص أكثر فى أعماقه ولكن متى تتسنى لى هذه الفرصة؟
بدأت ليالي العشر الأواخر فدعوته لأن يصلى معنا التهجد فابتسم ساخراً وقال:– الآن تذكرت أن تدعوني للتراويح والتهجد؟.
قلت متجاوزا ذكر التراويح كأنه يعاتبني:– أنت لاتدع لى فرصة.
قال:– كنت أتمنى أن تكونوا أقوى من ذلك، ماذا كنت سأفعل لك لو أنك دعوتني؟ كنت سأبطش بك مثلا؟ هب أن ذلك حدث، أليس عليك أن تتحمل فى سبيل دعوتك.
ثم أردف بصوت منكسر:– لقد تحملت من الأهوال مالا يصدقه عقل لأفوز بامرأة فى الحرام.
ثم سكت هنيهة كأنما انتبه ثم غير الموضوع بسرعة قائلا:– وجبات السحور كلها على حسابى.
بدأت العشر الأواخر وإيهاب الجن يقضى أغلب وقته فى المسجد مابين الصلاة وقراءة القرآن وصمت طويل مهيب، كأنما كان تائها ووجد ضالته وراحة باله، ومع كل ذلك لم يجرؤ أحد من الاقتراب منه سواي، فى الليلة الثانية ناداني وسألني:– لماذا يخاف منى الناس هكذا؟ لماذا هم جبناء لهذا الحد؟ لو اجتمعوا على مرّة واحدة كنت توقفت عن شروري منذ زمن بعيد، كل هؤلاء سيذهبون إلى الجحيم.
قلت مبتسما:– قبل أن تدخلهم النار قم وصالحهم.
قال:– أصالحهم؟ كيف؟.
قلت:– قم ووزع السحور مع الشباب.
ابتسم مستحسنا الفكرة وقام من فوره وحمل السحور بيديه للناس وبدأ الجميع يتجاوبون معه ويشكرونه ويمازحونه وهذا يطلب منه خبزا فيأتيه وهذا يريد المزيد فيأتيه، أما هو فقد رأيت عليه وجها غير الذى كنت أعرفه قبلا.
فى ليلة الخامس والعشرين كنا نستمع لدرس الرقائق فى جوف الليل وتحدث الشيخ عن الآخرة وتطرق فى حديثه عن النار، ويبدو أن الشيخ أطال فى الحديث عن العذاب، فجأة بدا صوت الشيخ مترددا وهو ينظر فى اتجاه واحد، فالتفتنا إلى مكان نظره فوجدنا إيهاب منتصباً فى وسط المسجد، وقد رماه بنظرة نارية أسكتت الشيخ ثم قال بصوته الجهورى:– ألا تستحى من الله نحن ضيوف فى بيته وتخوفنا منه، أنا حضرت إلى بيته طامعا فى رحمته وأنت تخوفنى منه، إلى أين أذهب؟ أنت شيخ أنت؟ من أين أتوا بك؟.
قمت إليه مسرعاً فى محاولة لتهدئته، فدفعنى وواصل كلامه:– يمكنك أن تتكلم عن الجنة؟.
فلم يرد عليه الشيخ مبهوتا فصرخ فيه:– يمكنك؟.
قال الشيخ فى اضطراب باد:– نعم.
قال إيهاب الجن:– فى رمضان لاتحدثنا عن النار لاتخوف الناس، هيا حدثنا عن الجنة، هيا هيا.
فى الليلتين التاليتين بدا إيهاب الجن متغيراً جداً كأنه مريض، حاولت الاطمئنان عليه بسؤاله ولكنه لم يزد على قول:– الحمد لله أنا بخير.
كنت أشعر فى هاتين الليلتين أنه لايستطيع الوقوف كثيراً وأنه يكابد ثقلاً فى جسده حتى عندما كنت أصافحه أجد حرارة شديدة فى يديه، حاولت عدة مرات أن أحثه على الجلوس فى الصلاة ولكنه لم يكن يرد إلا بالصمت.
افتقدناه فى صباح السابع والعشرين فلم نره فى الوكالة ولم يأت فى الصلوات كلها سألت عنه العمال قالوا: لم يأت ولم يتصل.
وبعد صلاة التراويح وقبل أن أقرر الاستئذان فى الذهاب إليه فى البيت كان أحد عماله يأتينى مسرعا يقول:– المعلم مريض ويريد أن يراك الآن.
استقبلتنى والدته وقد غلبتها الدموع وهمست لى قائلة:– إيهاب مريض جداً ولا يريد أن يراه طبيب أرجوك حاول أن تقنعه.. أنا قلبى محروق عليه.
هدأتها وطمأنتها ودخلت إليه، كان صامتا شارداً وقد غلب وجهه التعب فبدت عيناه محمرتان، ألقيت عليه السلام فابتسم ابتسامة واهنة وأشار إلى بالجلوس، ثم قال لى مباشرة وبدون مقدمات:– لم يعد لدى وقت طويل فى هذه الحياة وأنا أريد….
فقاطعته مستفهما:– ماذا تعنى؟
قال :– أعنى أننى سأموت فى خلال وقت قصير جداً، وليس لدى وقت للأخذ ولا للرد.
نظرت إلى وجهه كأننى لم أستوعب مايقول فقال مواصلا حديثه:– لقد ارتكبت فى حياتى كوارث وأذنبت ذنوبا كالجبال وحديث الشيخ عن النار هزّنى وأرعبنى، شعرت أن كل مافعلته من أول رمضان لاقيمة له أمام ذنوبى، وهذا سبب صراخى فى وجه الشيخ كأننى كنت أستنجد برحمة الله من عذابه
وهنا تدفقت الدموع من عينيه وانسابت على وجهه غزيرة، وبدا لى ساعتها على صورته الحقيقية التى غطاها بإجرامه وشقاوته، ربتُّ على يديه قائلا: – نعم كلنا نستغيث برحمة الله من عذابه وبرضاه من غضبه.
قال:– تراه يتجاوز عما فعلت؟.
قلت:– على حسب ماتظن بربك سيعطيك.
قال:– أعرف والله أنه كريم ولكنى أخاف من ذنوبى.
قلت:– حين تدخل بيت الله هل تشك فى كرمه
قال:– أستغفر الله..
قلت:– كذلك حين تقبل عليه لاترجو إلا رحمته، والله تعالى يستحى من عبده أن يقبل عليه بوجه فيلقاه بوجه آخر، والله تعالى يقول : ((قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم ))
هز رأسه مؤمنا على كلامى، ثم التفت إلى قائلا:– اتركنى الآن.
كل الصائمين ينتظرون يوم الجائزة صباح يوم عيد الفطر، أما إيهاب فلم يطق صبراً على الانتظار فقد سارع إلى ربه ليأخذ جائزته عنده سبحانه وتعالى، قالت لنا أمه أنه صلى فجر العيد فى فراشه، ولم يتوقف عن التكبير إلا حين سمع الإمام ينادى استقيموا إلى الصلاة، فرفع عينيه إلى السماء مسلما روحه لخالقها.
دارت الأيام دورتها، وأشرقت شموس وغربت، وفرحت ناس وحزنت، وتجمعت وتفرقت، وظل إيهاب الجن بحياته القصيرة علامة بارزة يتناقلها الناس، أما أنا فظللت أبحث عنه كثيراً كنت أشعر بوجوده فى مكان ما.. حتى وجدته عصر اليوم فى المسجد.
اصطف الأشبال الصغار فى المسجد للصلاة، ووقف طفل فى وسط الصف أطول وأعرض من كل الأطفال خاشعا متبتلا فأعجبتنى هيئته، فاقتربت منه فوجدته يقول: – نويت أصلى ثلاث أو أربع ركعات حسب مايقول سيدنا الإمام بجوار هؤلاء الحمير.
ثم بتقعر واضح للحروف كبر تكبيرة الإحرام ( الله أكبر ) فسرت أصوات ضحكات مكتومة وسط الأطفال، فوضعت يدي على كتفه فالتفت إلى بلا خوف مبتسما، فابتسمت له قائلا:– هل تعرف عمر بن الخطاب؟.
من المجموعة القصصية (زوجتك نفسي)